اعتبر الشاعر السوري المعروف "أدونيس" أن الثورات العربية الراهنة إذا لم تفض إلى تغيير المجتمع جذرياً وإلى فصل الدين عن الدولة، فإنها ستكون غير مجدية ولا مفيدة. في اتجاه آخر وبالمنطق نفسه، اعتبر المفكر الإسلامي السويسري (من أصل مصري) "طارق رمضان" أن مؤشرات "الربيع العربي" الراهن تؤكد أن ما يجري في الواقع ليس ثورات عفوية، بل هو حصيلة استراتيجيات دولية مدروسة للتحكم في مسار التحول داخل البلدان العربية. ما يجمع الكاتب الذي يتسمى بالعلماني "اللاديني" والمفكر "الإسلامي" هو النظر إلى موجة التغيير الحالية بأنها ليست أحداثاً جوهرية، وإنما تحولات محدودة وجزئية، لا تتجاوز سقوط أنظمة حكم وتبدل قواعد اللعبة السياسية الظرفية. "أدونيس" يتخوف من استفادة التشكيلات الإسلامية من هامش الحريات العامة الذي افتكته حركة الشارع العربي، فتكون النتيجة "تراجعاً وتقهقراً" (أسوأ من الأنظمة الاستبدادية العلمانية)، و"طارق رمضان" يتخوف من أن يكون الدعم الغربي لديناميكية التغيير مجرد مناورة محسوبة لحفظ المصالح بواجهة جديدة (ولو كانت الواجهة الإسلامية نفسها). يستعيد هذا الجدل الحوار الفكري الاستراتيجي الأميركي بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 التي نعيش هذه الأيام ذكراها العاشرة. برز أوانها اتجاهان بارزان في الدوائر السياسية الأميركية: اعتبر أحدهما أن المأزق الذي يعاني منه العالم الإسلامي متولد عن طبيعة الاستبداد السياسي، الذي يتعين كسره حفاظاً على المصالح الأميركية الحيوية، وذهب الآخر إلى أن عمق المأزق عقدي فكري متصل بالمرجعية الدينية وبالتقاليد الثقافية المحورية. تبنى الخط الأول "المحافظون الجدد" المقربون من إدارة بوش، الذين كانوا وراء مبادراتها المتكررة لرعاية وفرض "التغيير الديمقراطي " في العالم العربي عبر البوابة العراقية، ومن خلال المقاربات السياسية التي حرص الرئيس بوش ووزيرة خارجيته "كونداليزا رايس" على تسويقها في المنطقة دون نجاح. وقد قرأنا في الأسابيع الماضية تحليلات لاثنين من أبرز كتاب هذا التيار هما "فؤاد عجمي" و"فريد زكريا" ذهبا فيها إلى أن الثورات العربية الأخيرة أكدت صحة وصدقية أطروحة بوش في الربط العضوي بين الديكتاتورية العربية والإرهاب الأصولي. تبنى الخط الثاني المستشرق العجوز "برنارد لويس" الذي أثرت دراساته التاريخية وتحليلاته السياسية على بعض دوائر صنع الرأي والقرار في الولايات المتحدة. أصدر لويس مؤخراً كتاباً بعنوان "الإيمان والسلطة: الدين والسياسة في الشرق الأوسط"، كرر فيه أطروحته المألوفة باستعصاء تصدير الديمقراطية للمجال الإسلامي لأسباب ترجع لبنية الدين الإسلامي العقدية والقيمية التي يمتزج فيها الديني بالسياسي ولا مكان فيها للحرية كمعيار فكري ومعياري. وفي تعليقه مؤخرا على الثورات العربية (مقابلة مع لنوفل أوبسرفاتور 28 أغسطس 2011)، ذهب لويس إلى أن حركة التغيير العربي الحالية لا يمكن أن تفضي إلى الديمقراطية التعددية، بل ستفسح المجال أمام تحكم القوى الدينية المتطرفة من خلال المنافذ الانتخابية، في حين يظل الخطاب الليبرالي هامشياً ونخبوياً غير مفهوم لدى القطاعات الشعبية الواسعة. هل كانت إذن انتفاضات الشارع العربي عام 2011 وليدة زلزال الحادي عشر من سبتمبر سلباً أو إيجاباً؟ لا بد من الإشارة هنا إلى أن الحدث لم يكن حاضراً لا صراحة ولا رمزياً في حركة التغيير العربي، بل يمكن القول بوضوح إن آثار الزلزال الأميركي لم تكن لها نتيجة تذكر داخل الساحة العربية، باستثناء الحرب العراقية عام 2003 التي نظر إليها إجمالاً على أنها كانت كارثة على الأمن الإقليمي العربي في مناحيه السياسية والاستراتيجية، وفي أبعاده الثقافية (المسألة الطائفية)، فضلاً عن كونها كرّست التوجس من معادلة التدخل الخارجي في المنطقة، وقدمت نموذجاً منفراً للديمقراطية المفروضة بقوة السلاح. كما أن استراتيجية الحرب على الإرهاب التي بلورتها الإدارة الأميركية بعد أحداث 11 سبتمبر لم تتمكن في صياغاتها المختلفة والمتتالية من التوفيق بين مطلبين متعارضين هما: من جهة كسر "الاستثناء الاستبدادي العربي"، ومن جهة أخرى مواجهة التيارات المتطرفة التي تفرض التحالف مع الأنظمة الاستبدادية في اعتماد مقاربات أمنية تتحرى الفاعلية خارج معايير التشريعات والقوانين الدولية. ولقد تجلى التذبذب ذاته بعد اندلاع الانتفاضات العربية الأخيرة، ولم تنحز الإدارة الأميركية لموجة التغيير إلا بعد إدراكها خسارة الرهان على الأنظمة المنهارة وبعد انقشاع وهم سيطرة المجموعات الدينية المتطرفة على الشارع العربي (لم تدرك البلدان الأوروبية هذه الحقيقة إلا بعد سقوط نظام بن علي). ومن هنا نختلف مع "طارق رمضان" في قوله بان الثورات العربية كانت نتيجة لتخطيط غربي محكم (أشار بالخصوص إلى مبادرات أميركية لتدريب المجتمع المدني المصري على أساليب المقاومة غير المسلحة وعلى استخدام تقنيات التواصل الإلكتروني الفعالة في التعبئة والتحشيد). بيد أن الإشكال الجدي المطروح حالياً على النخب العربية التي واجهت خلال العشرية الأخيرة العاصفة المغامرات الأميركية في المنطقة بما تخللها من جرائم وتجاوزات في العراق وأفغانستان هو إلى أي حد يمكن قبول التدخل الخارجي لإسناد حركة التغيير الراهنة في مواجهتها للأنظمة القمعية؟ طرح السؤال في ليبيا التي شكلت ساحة اختبار حاسمة لهذا النهج، مع العلم أن جل مكونات المجلس الانتقالي الذي يقود الثورة الليبية هي من الجهات المناوئة لأسباب إيديولوجية وعقدية للاستراتيجيات الغربية (قوميون وإسلاميون ويسار)، وهو مطروح اليوم بحدة في سوريا. فثمة إجماع قائم على أن الأنظمة الاستبدادية لا يمكن أن تنهار من جراء انتفاضة الشارع السلمية وحدها، ومن ثم ضرورة الحماية الدولية المطلوبة للسكان الذين يواجهون بصدور عارية ماكينة القمع الوحشية، إلا أن التدخل الغربي يطرح دوماً إشكالات عصية تتعلق برهانات السيادة ومصالح واستراتيجيات القوى الدولية. خشية "طارق رمضان"في غير محلها، بقدر ما أن تخوفات أدونيس" تفضي إلى خيار عدمي بين الاستبداد والتطرف، في حين أثبتت حركة الشارع العربي أن أفق التحول مفتوح ورحب، حتى ولو كانت مخاطر الانتقال جدية وحاسمة.