تركيا تخفض علاقاتها إلى أدنى مستوى مع إسرائيل، وتعد بإرسال سفنها الحربية لحماية أية قوافل إغاثة ترسلها إلى غزة مستقبلاً، بل يتحدث رئيس وزرائها أردوغان عن زيارة قد يؤديها قريباً للقطاع المحاصر... فيما تعلن إسرائيل التعامل بجدية مع تصريحاته، وترفض الاعتذار لأنقرة، بل تتوعد بـ"تدابير قاسية" ضدها، وتلوح علناً بإمكانية دعمها للأكراد والأرمن. التدهور المفاجئ في علاقات الحليفين، والذي أثار القلق العميق لدى واشنطن، حدث عقب تقرير أعدته الأمم المتحدة حول الهجوم الإسرائيلي على "أسطول الحرية" العام الماضي. ففي الأول من سبتمبر الجاري نشرت صحيفة "واشنطن بوست" ذلك التقرير الواقع في 105 صفحات، والذي يكاد يبرئ إسرائيل ويجرّم الأتراك والفلسطينيين، إذ يحمّل النشطاء الأتراك مسؤولية استشهادهم على أيدي قوات الكوماندوز الإسرائيلي، كونهم قاموا بفعل "متهور"، كما يعتبر الحصار الإسرائيلي على القطاع عملاً دفاعياً مشروعاً! وفيما يتعلق بالخسائر البشرية والمادية التي لحقت بأسطول الحرية جراء الهجوم الإسرائيلي، لم يزد التقرير على أن وصف الهجوم بأنه "استخدام مفرط للقوة" ومن ثم فهو "غير مقبول". لقد جاء تسريب التقرير بعدما أرجئ نشره رسمياً عدة مرات خلال الأشهر الماضية الأخيرة، وذلك بغية السماح لإسرائيل وتركيا بإصلاح الحال بينهما، وهذا أحد أوجه التسييس في التقرير الذي قوبل برفض قوي من تركيا معتبرة إياه وجهاً للتحيز الدولي. التقرير الذي أثار أزمة لا سابق لها في علاقات الدولتين، دفع للكشف في الخلفيات الأيديولوجية لرئيس اللجنة التي أعدته، وما يمكن أن يؤثر عليه من مواقف وتحيزات مسبقة. فرئيس اللجنة المعروفة إعلامياً بـ"لجنة بالمر"، هو رئيس الوزراء النيوزيلندي الأسبق السير جيفري بالمر الذي اختاره أمين عام الأمم المتحدة لهذه المهمة في مطلع أغسطس 2010، وقام بتشكيل لجنة من أربعة أعضاء للتحقيق في الهجوم الإسرائيلي الدامي على أسطول الحرية. يومها علق بالمر على قرار اختياره لهذه المهمة: "إنه أمر حساس للغاية... إنه تحقيق شبه قضائي، لهذا من المهم جداً أن نحافظ على الشعور بعدم التحيز". لكن لماذا لا يكون التحقيق قضائياً بالكامل؟ وهل نجح بالمر في المحافظة على "الشعور" بعدم التحيز؟ جيفري بالمر أكاديمي ورجل قانون مرموق في بلاده نيوزيلندا، حيث ولد عام 1942، وتخرج من كلية الحقوق في جامعة فيكتوريا بالعاصمة ويلنغتون عام 1964، قبل أن يحصل منها على شهادة الدكتوراه عام 1967، ليعمل مدرساً ثم أستاذاً بالجامعة ذاتها. وخلال مشواره المهني شغل بالمر مناصب سياسية عديدة منذ عام 1979 حين فاز بعضوية البرلمان واحتفظ بها في ثلاث دورات انتخابية متتالية. ثم أصبح وزيراً للعدل في عام 1984، ووزيراً للبيئة في عام 1987، قبل أن يتقلد منصب رئيس الوزراء بين أغسطس 1989 وسبتمبر 1990، وذلك عقب أزمة مرّ بها "حزب العمل" الحاكم حينها وأدت إلى إجراء انتخابات مبكرة. بعدئذ عاد بالمر إلى عمله كأستاذ للقانون في جامعة فيكتوريا، وأسس مع شركاء آخرين مكتباً للمحاماة، قبل أن تختاره نيوزيلندا عام 2002 ممثلاً لها في اللجنة الدولية لصيد الحيتان، ثم تُعينه في عام 2005 رئيساً للجنة وطنية مكلفة باقتراح تحسينات على القوانين. أما لقب "السير" الذي يحمله فيعود لكونه عضواً في المجلس الاستشاري لملكة بريطانيا إليزابيت الثانية، والتي هي أيضاً ملكة لنيوزيلندا. فهذه الجزيرة التي حولت عزلتها الطويلة في جنوب غرب المحيط الهادي إلى فرصة مثالية للتقدم والتطور، تعتبِر معاهدة الحماية مع بريطانيا عام 1840 وثيقة ميلادها كأمة حديثة، حيث أعلنت بريطانيا في ذلك العام سيادتها الكاملة على نيوزيلندا، ثم منحتها حكماً ذاتيا عام 1856. ورغم إعلان السيادة عام 1907، فقد ظلت نيوزيلندا عضواً متحمساً من الكومنولث البريطاني، فشاركت في جميع الحروب التي خاضتها بريطانيا، مثل حرب البوير والحربين العالميتين الأولى والثانية، كما دعمت لندن في العدوان الثلاثي، وظلت ملكة بريطانيا ملكة لنيوزيلندا حيث يمثلها حاكم عام تعينه. هذه الخلفية "البريطانية" لبالمر، علاوة على علاقته بـ"المحافظين الجدد" والتي تعود إلى أوائل الثمانينيات حين عمل أستاذاً زائراً في جامعتي أيوا وفرجينيا الأميركيتين... هي ما أبرزه الإعلام التركي عقب تقرير اللجنة الدولية، بما انطوى عليه من "تحيز فاضح" يخل بمصداقية مثل هذه التقارير الدولية. و"تقرير بالمر" تحديداً هو خلاصة التحقيق "شبه القضائي" الذي أجرته اللجنة الأممية حول اعتراض البحرية الإسرائيلية "أسطول الحرية" يوم 31 مايو 2010 في أعالي مياه البحر الأبيض المتوسط. وكان الأسطول مكوناً من تسع سفن، يضم سفينتين تتبعان مؤسسة الإغاثة الإنسانية التركية، إحداهما هي "مافي مرمرة"، وسفينة أخرى بتمويل كويتي جزائري، وثلاث سفن تابعة للحملة الأوروبية لرفع الحصار عن غزة، وسفينة الحملة السويدية، وسفينة الحملة اليونانية، وسفينة منظمة "غزة الحرة". وقد حملت السفن على متنها مواد إغاثة ومساعدات إنسانية، بالإضافة إلى 750 ناشطاً حقوقياً وسياسيًا، بينهم صحفيون يمثلون وسائل إعلام دولية. وفي فجر ذلك اليوم قامت قوات البحرية الإسرائيلية بإنزال جوي على سفينة "مافي مرمرة" وطوقتها بزوارق حربية، فقتلت تسعة من النشطاء الأتراك وجرحت عشرات آخرين، واحتجزت باقي سفن الأسطول بركابها وحمولاتها من المواد الغذائية والطبية. وأدى الهجوم في حينه إلى أزمة بين إسرائيل وتركيا التي استدعت سفيرها في تل آبيب مطالبة إياها بتقديم اعتذار ودفع تعويضات لأهالي الضحايا. وبالعودة إلى تقرير "لجنة بالمر" فهو يعترف بأن بعض القتلى أصيب بعدة رصاصات في الظهر، كما يقر بأن النشطاء الأتراك كانوا مدنيين عزلاً، ومع ذلك فهو يصنف الهجوم الإسرائيلي ضد الأسطول باعتباره عملاً دفاعياً، كما يعتبر حصار القطاع "قانونياً ومتوافقاً مع القانون الدولي"! لذلك لم يتردد كثيرون في اعتبار تقرير بالمر منافياً للمبادئ والأسس التي قامت عليها الأمم المتحدة، وخروجاً على القانون الدولي؛ فهوي يتبنى الموقف الإسرائيلي فيما يتعلق بـ"قانونية" الحصار، ويتعارض مع مضمون تقرير جولدستون الذي اعتبر الحصار شكلاً من أشكال العقاب الجماعي الذي ينتهك القانون الدولي بما في ذلك المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة. ومن خلال التقرير الذي رحبت به وسائل الإعلام الإسرائيلية، ربما أراد بالمر أن يبدو متوازناً في أعين الدولة العبرية وحلفائها، وحتى لا يتعرض لحملة كالتي لقيها جولدستون بعد تقريره الأصلي الذي دان فيه إسرائيل إدانة كاملة. لكن ذلك "التوازن" المنحاز في تقرير "شبه قضائي"، فجر أزمة كبرى توشك أن تمتد إلى ما هو أبعد من العلاقات التركية الإسرائيلية، لتفرض نمط انتظامات إقليمية جديداً في الشرق الأوسط المائج بتحولاته الحالية غير المسبوقة. محمد ولد المنى Summary