"أن تحكم يعني أن تختار، والخيارات التي اتخذتها إدارة بوش في عام 2002 كانت مصيرية، فمع أن الولايات المتحدة بدأت سنتها تلك مصدومة ومجروحة إلا أنه كانت لديها مكاسب استراتيجية واضحة، فشعبها كان أكثر اتحاداً وتماسكاً، والعالم أبدى تعاطفاً كبيراً معها، فيما أظهر الحلفاء التقليديون حرصاً منقطع النظير على المساعدة وتقديم العون... وأكثر من ذلك كانت الموازنة بخير وبعيدة عن العجز، وهو كل ما كان مطلوباً التفكير بشمولية في الأخطار المحدقة بالبلد والتعاطي معها بطريقة مبتكرة، ولكن بدلاً من ذلك اختارت إدارة بوش أسلوباً مغايراً وفي كل خطوة اتخذتها عمقت من خطر الإرهاب، لتتحول 2002 إلى سنة ضائعة بكل المقاييس".. هذه هي الخلاصة التي خرج بها "جيمس فالوز" في مقال متميز بعنوان "عام بوش الضائع" نشر في مجلة "ذي أتلانتيك" في عام 2004. واليوم بعد مرور عشر سنوات على الهجمات المروعة ما زلنا نشعر بالألم والمرارة لفقدان حياة كثير من الأشخاص، ويهمين علينا الإحساس بالغضب والعجز، ولكننا أيضاً وبالدرجة نفسها ينبغي أن نتأمل كل الأشياء التي فقدناها ونحن نتعامل مع الهجمات الإرهابية والضرر الفادح الذي ألحقناه بأنفسنا وبالآخرين طيلة السنوات التي تلت مأساة الحادي عشر من سبتمبر، فبدلاً من البناء على التعاطف الدولي الواسع وصياغة نظرة شاملة في كيفية التعامل مع الهجمات وتداعياتها أفسحنا المجال لأسوأ غرائزنا لتعلو على صوت العقل والحكمة، وإذا كانت سياسة بوش المتعجرفة في تلك السنوات قد ساعدته داخليّاً ورفعت شعبيته بين المواطنين، إلا أنها بددت أيضاً في الوقت نفسه سمعة أميركا في العالم وقوضت رصيدها الأخلاقي. فقد انخرطت إدارة بوش في حربين كارثيتين لم يُعد لهما بشكل جيد تاركة أميركا أكثر ضعفاً وانكشافاً أمام العالم، وفيما كنا في السابق "المدينة المشرقة على تلة" تحظى بالمصداقية الأخلاقية وأصبحنا بعد "جوانتانامو" وأساليب التعذيب التي مورست على المعتقلين وسجن "أبو غريب" في أسفل السلم الأخلاقي. وهناك عنصر من المأساة والمفارقة في الأهداف التي أعلنت في "مشروع القرن الأميركي الجديد" الذي يفترض أن يضمن الأمن القومي الأميركي ويكرس الهيمنة الأميركية طيلة القرن القادم، عندما تحولت تلك الأهداف إلى طريق سالك لضرب مصداقية أميركا واستنزاف مواردها ومن ثم إضعافها في العالم. ومن الصعب اليوم الخروج بحصيلة إيجابية من الحربين في العراق وأفغانستان. فعلى الصعيد الأميركي فقدنا أكثر من ثمانية آلاف شخص ودُمرت حياة الآلاف من المواطنين لما تعرضوا له من جروح بليغة، ناهيك عن مئات الآلاف من الأرواح التي أزهقت في العراق وأفغانستان، فيما خمس سكان العراق يعيشون حاليّاً كلاجئين في بلدان مجاورة، أو نازحين عن ديارهم داخل العراق نفسه. وبالإضافة إلى الخسائر في الأرواح أنفقت أميركا أيضاً أكثر من تريليون دولار على حربين لم تحسم أمرهما بعد، وعلى رغم مقتل بن لادن فإن خطر "القاعدة" ما زال قائماً، وهي اليوم تنشط في مختلف القارات والبلدان ليستمر خطرها على الأمن والمصالح الأميركيين، ناهيك عن التداعيات الخطيرة للحربين فيما يتعلق بزعزعة استقرار باكستان وتعزيز النفوذ الإيراني، وهما الأمران اللذان جعلا المنطقة أكثر خطورة. وفي ردة الفعل الأولى التي انقادت وراءها إدارة بوش بعد الهجمات لم تكتف بالدخول في حروب غير ضرورية، بل اعتمدت أيضاً على قراءة غير ديمقراطية للدستور الأميركي، وبدلاً من الإقرار بإخفاق أجهزة الاستخبارات في رصد الخطر واستباقه، راحت الإدارة تسن قوانين تبرير لممارسات تمييزية تستهدف المسلمين في أميركا والعالم. وفي السياق نفسه تلقف المسؤولون في إدارة بوش هذه الممارسات ليبثوا الخوف في نفوس الأميركيين، وللتحريض ضد المسلمين داخل أميركا ذاتها، في تناقض واضح مع الدستور الذي يكفل حرية التعبير والتدين، ولأن التركة كانت ثقيلة والعراقيل التي وضعتها إدارة بوش كثيرة ومتعددة، كان من الصعب حتى على أكثر الرؤساء تفهماً قلب التركة وإصلاح الأعطاب، ولذا فقد تنفس العالم الصعداء عندما تُوج أوباما رئيساً لأميركا في عام 2009، وتنامى أمل حقيقي في تغيير مسار أميركا وترميم صورتها. غير أن التحديات كانت أكبر من قدرة أوباما على التحرك بعدما واجه معارضة شديدة من الحزب الجمهوري، بل وحتى من داخل حزبه الذي أذعن للضغوط، ففشل أوباما في إغلاق جوانتانامو وإعادة التأكيد على شروط المحاكمة العادلة والإشراف القضائي على التحقيق، والأهم من ذلك تغيير السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط. والنتيجة أننا أضعنا عقداً كاملًا في السياسات الخاطئة التي أضعفت أميركا وهزت مصداقيتها، كما أن تعليق "فالوز" لم يجانب الصواب، ولذا ونحن اليوم نحيي الذكرى العاشرة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر فإننا ينبغي أن لا نتذكر فقط الأرواح التي أزهقت ومعاناة أسر الضحايا، بل إن علينا أيضاً التحسر على الإمكانات والفرص المهدورة والأخطاء المرتكبة طيلة هذه السنوات العشر المريرة.