شاع تعبير "كسر حاجز الخوف" لوصف توالي الثورات العربية الأخيرة. فعلى رغم القمع عدة عقود من الزمن في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا إلا أن صبر الجماهير العربية نفد، والقمع وصل إلى حده الأقصى بالاعتقال والاغتيال وتزوير الانتخابات وقانون الطوارئ والفساد والتوريث. يكفي كسر حاجز الخوف في الوعي الفردي قبل أن ينتقل إلى الوعي الجماعي، من البوعزيزي في تونس الذي آثر الانتحار حرقاً على إهانته والنيل من كرامته بعد أن تحمل الجوع والبطالة والتهميش والضياع، إلى ثورة الجماهير في تونس. ثم انتقلت الشرارة إلى مصر ثم إلى اليمن ثم إلى ليبيا ثم إلى سوريا. فالجسد العربي واحد. وسقطت الحدود والخلافات بين الزعماء. فالثورة توحد الجماهير كما يوحد الاستبداد والفساد بعض الزعماء. وامتدت الشرارة إلى نظم أخرى كحركة إصلاحية منادية بحرية الصحافة، والتعددية الحزبية، وتكوين دولة مدنية ديمقراطية حديثة تقوم على المواطنة والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. وخرج الآلاف من المنازل، ونزلوا إلى الشوارع على مدى عدة أشهر، خمسة أشهر في سوريا وستة أشهر في اليمن وسبعة أشهر في ليبيا. وعمت المظاهرات كافة المدن والمحافظات السورية واليمنية والليبية. وازدادت شدة يوماً وراء يوم. وعلّت سقف مطالبها من "الشعب يريد إصلاح النظام" إلى "الشعب يريد إسقاط النظام" إلى "الشعب يريد إعدام الرئيس". كل مرة لا يستجيب النظام ويتأخر في استجابته لمطالب الشعب. لا فرق بين رمضان وقبل رمضان أو بعده. لا فرق بين نهار وليل. بل إن تحركات الجماهير في رمضان أصبحت جزءاً من طقوسه بعد التراويح أو بعد الفجر. ولم تعد للزمن أهمية، شهراً أو اثنين، سنة أو سنتين. فلا عودة إلى الوراء. "الموت ولا المذلة". فانتفاضة الحرية أعمق جذوراً في الوجود الإنساني من انتفاضة الخبز. فالحرية قبل الخبز. وقرر النظام تخويف الجماهير بقوة السلاح. فاعتمد على قوات الشرطة والأمن والجيش و"البلطجية" و"الشبيحة" لمواجهة الجماهير في المدن بعد حصارها وكأن النظام في حرب مع عدو يحتل الأوطان. لا فرق بين شاب وطفل وشيخ وامرأة ورجل. الكل مستهدف بالذخيرة الحية في الصدر مواجهة أو من القناصة في الرأس من أعلى. والمظاهرات سلمية. وقررت أن تظل كذلك مع أن السلاح متوفر من العراق ولبنان. فالمطالبة بالحرية لا تحتاج إلى سلاح. واستعملت كل أنواع الأسلحة بما في ذلك سلاح الجو وسلاح البحرية لضرب المدن من البحر، والنشطاء من الجو. دبابات ومصفحات وحاملات جنود تداهم المدن وتطلق النار عشوائيّاً للتخويف. ومن يرفض من قوات الأمن والجيش تُطلق النار عليه ويتهم "المسلحون" من المتظاهرين الذين أتى بهم الجيش لتخليص الأهالي منهم وبناء على طلبهم، بأنهم عملاء الخارج يريدون إرجاع سوريا إلى رقبة الاستعمار وإخضاعها للصلح مع إسرائيل. وتزداد إراقة الدماء كل يوم فلا حل آخر أمام النظام. فإما القمع وإما السقوط. وبما أنه ما زال متمسكاً بالسلطة والثروة فإنه لا خيار أمامه إلا القمع والتخويف لعل الجماهير تعود إلى منازلها وتخشى على حياتها من الموت الذي ينتظرها. وهو ما يستحيل أيضاً على الجماهير العربية بعد أن قررت كسر حاجز الخوف والانتفاضة من أجل الحرية والكرامة. وتدور بين الحين والآخر حوارات مصطنعة بين ممثلي المعارضة وممثلي النظام على تحقيق مطالب الجماهير المعروفة منذ عدة عقود، منذ الأب حتى الابن. وهي حوارات كلامية لإرضاء المجتمع الدولي بنية الإصلاح. لا تجدي شيئاً. فهي حوارات في الصالات المغلقة والدبابات والمصفحات تقذف الجماهير في المدن. والحوارات في العواصم الخارجية في إسطنبول أو في بعض العواصم الأوروبية لممثلي المعارضة في الخارج لها ثقل معنوي ولكنها لم توقف القصف ولا إراقة الدماء. فالنظام يحاور نفسه مرتين، الأولى بالكلام في الإعلام وعلى الموائد في الحجرات المغلقة، والثانية بالسلاح في الشوارع وبالرصاص الحي الموجه نحو قلوب المتظاهرين ورؤوسهم. والصمت العربي مطبق مما اضطر المتظاهرين إلى رفع شعار "صمتكم يقتلنا". ومصر قلب الوطن العربي تخلت عن دورها في العقود الأربعة الأخيرة. وما زالت متعودة عليه. وتحولت مبادرات الوطن العربي إلى الخليج سواء في اليمن أو في سوريا بسحب السفراء للتشاور. والجامعة العربية مكبلة بمواثيقها التي تمنع التدخل في شؤون الدول الداخلية لأنها جامعة النظم العربية وليست جامعة الشعوب العربية. ومن الطبيعي أن تتباطأ ردود أفعال الدول الأجنبية لأنها مرتبطة بمصالحها وليس بالدفاع عن الشعوب الأخرى على رغم من إعلانات حقوق الإنسان والمواثيق الدولية ومنظمات الأمم المتحدة. وقد يطول الصراع بين الجماهير الشعبية السلمية والقوات المسلحة على كافة أنواعها انتظاراً لأن يتغلب أحدهما على الآخر. ولن يتغلب أحد الطرفين. فالقوات المسلحة ينشق منها الضباط والجنود، ويكونون حركة "الضباط الأحرار" كما حدث في الخمسينيات. وقد يحدث انشقاق في قيادات الجيش أو في أسلحة بأكملها كما حدث في الكلية الحربية. وقد يحدث انقلاب عسكري كما حدث في أواخر الأربعينيات مع حسني الزعيم. ينهي هذا الحكم الاستبدادي الذي ظل أكثر من أربعة عقود. وقد تحدث عملية اغتيالات للقيادات من أجل زحزحة الموقف. فالفرد في البلاد هو الزعيم والقائد ومحور النظام وأساسه وليس المؤسسات. وقدرة الجيش على مواجهة الشعب لها حدود. فالجيش في النهاية جيش الشعب، ومهمته الدفاع عن الأوطان وليس الدفاع عن النظام. والجولان محتل. ومهمته هناك على الحدود وليست في درعا وحمص وحماة واللاذقية ودير الزور وبوكمال. مهمته تشبث المواطنين بالأرض وليس في نزوحهم خارج البلاد إلى تركيا ولبنان. وقد يأتي الحل من الجماهير عندما تشتد حركة الشارع ويسقط الشهداء كل يوم وتسيل الدماء. إذ تتحول صاخبة إلى قصور الحكم، تحاصرها، وتداهمها، وتقبض على من فيها كما استولت الجماهير الفرنسية على سجن "الباستيل" وحررت المعتقلين السياسيين، وكان ذلك إيذاناً ببداية الثورة الفرنسية. وكما أرادت الجماهير الشعبية في تونس ومصر الإحاطة بقصري الحكم لولا تدخل الجيش وإنذار الرئيسين بأن الجيش لن يطلق النار على الجماهير. فأربعون عاماً من الاستبداد ولدت في الجماهير مناعة ضده. ولن تعود إليه أو ترضخ لنظامه. فقد أتى الحاكم بالتوريث وهو ضد النظام الجمهوري وتغير الدستور حتى يلائمه. ولديه مناعة من مذابح سابقة، مذبحة حماة. وتعود إلى سوريا أسطورتها، إنها قلب العروبة النابض. وفيها نشأت حركة القوميين العرب. وهي التي رفضت كامب ديفيد بعد أن شاركت في الحرب في أكتوبر 1973. فهي قلعة الصمود وإحدى دول الممانعة، ونصيرة المقاومة الفلسطينية ومحتضنتها في دمشق. سوريا هي مفتاح الحل في المنطقة، فلا حرب بدون مصر، ولا سلام بدون سوريا. تلقى احترام الشرق والغرب. تؤيدها روسيا والصين ولا ترفضها النظم الغربية أو الولايات المتحدة الأميركية. هي ميزان الثقل في المنطقة بعد أن آثرت مصر التخلي عن دورها لغيرها، للخليج أو الشام. والشام له رصيد في قلب كل عربي. ومذكور في الحديث بأنه أرض مقدسة، كما أن مصر مذكورة في القرآن الكريم بأنها أرض الوفرة والأمان.