أصدرت الأمم المتحدة في الأسبوع الماضي التقرير الخاص بالاعتداء الإسرائيلي على قافلة الحرية البحرية التركية التي كانت قافلة إنسانية تحمل مساعدات لسكان قطاع غزة المحاصرين، وذلك في 31 مايو 2011. وقد كوّن الأمين العام للأمم المتحدة فريقاً للتحقيق في هذه الحادثة في 2 أغسطس 2011، وأصدر الفريق نتيجة تحقيقه في أوائل سبتمبر الحالي. وقد تشكلت اللجنة برئاسة السفير جيفري بالمر رئيس وزراء نيوزيلندا السابق وعضوية كل من رئيس جمهورية كولومبيا السابق "ألفارو أوريبي" وشخصيتين قانونيتين أحدهما إسرائيلي هو "جوزيف إنزاهار"، والآخر تركي هو "سليمان سانبرك". وقد أثار هذا التقرير ضجة كبيرة سواء في العالم العربي أو في تركيا حيث وصفت السلطة الفلسطينية التقرير بالمنحاز للموقف الإسرائيلي، وكذلك فعلت "حماس"، حيث أضفى التقرير شرعية على الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة. ويقع التقرير، حين استعراضه في مئة وخمس صفحات، أو في ستة أجزاء وملحقين أحدهما قانوني، والآخر عبارة عن اعتراض وتحفظ الخبير القانوني التركي على محتويات التقرير. ويصف التقرير تفاصيل حادثة هجوم القوات الإسرائيلية، ويعترف بأن كلاً من الحكومة التركية والحكومة الإسرائيلية قد قدمتا تقارير لجانهما المختصة إلى الهيئة الدولية المكلفة بهذا التحقيق، إلا أن اللجنة اعتمدت لسبب أو لآخر على التقرير المقدم من إسرائيل، وتجاهلت التقرير التركي، باعتبار زعمها بأن الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة هو "أداة قانونية أمنية مشروعة "! وأن حرية الملاحة في أعالي البحار هي "حرية محدودة بشروط معيّنة" (المادة 2 ص 4 ). ومع أن التقرير يشير إلى أن إسرائيل لم تقم بتحذير السفينة مع أنها كانت تبعد حوالي 72 ميلاً بحريّاً عن الشواطئ الفلسطينية، ولم تدخل منطقة الحظر البحري، إلا أنه يطالب بتقديم تعويضات إلى أهالي المقتولين الأتراك التسعة، ويقف عاجزاً عن إدانة العمل الإسرائيلي الآثم. ويطالب التقرير الدولي الحكومة الإسرائيلية بتقديم اعتذار رسمي عما حدث، وأن تشكل الحكومتان الإسرائيلية والتركية مجموعة عمل دبلوماسية مشتركة لتبادل الآراء حول هذه المشكلة. وبهذا الموقف المائع، يبدو أن اللجنة قد فقدت سمتها القانونية، واتخذت موقفاً سياسيّاً مسانداً للحكومة الإسرائيلية، وقد عبر عن هذا بوضوح الخبير التركي الذي طعن في مقولات اللجنة واعترافها بالحصار الإسرائيلي لغزة. وذكر أن تقريراً سابقاً لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قد أدان هذا الحصار من قبل واعتبره غير شرعي وغير إنساني. كما أن حرية الملاحة في أعالي البحار تمثّل قاعدة قانونية عالمية يجمع عليها المجتمع الدولي، حيث حدثت الحادثة في المياه الدولية، وقد قاوم الركاب المدنيون القوة الغاشمة التي هاجمتهم، وقتل على إثرها تسعة ركاب مدنيين، وجرح جندي إسرائيلي واحد، كما أن أحد المصابين لا يزال في حالة غيبوبة كاملة. وقد اعترفت اللجنة نفسها بأنها لم تتمكن من الاتفاق على جميع النقاط التي تمت مناقشتها، وأنها اعتمدت على توافق الرأي بين رئيس اللجنة النيوزيلاندي، ونائبه الكولومبي. وهناك تناقضات خطيرة في التقرير، فبينما تنص الفقرة 147 على أن الوضع الإنساني خطير في غزة تعود نفس الفقرة لتلتمس الأعذار لإسرائيل في فرضها للحصار باعتبار التهديد العسكري الذي تمثله بعض الجماعات المسلحة الفلسطينية على إسرائيل (هكذا بالحرف الواحد). وتعود المادة التالية لتحذر أي مجموعة إنسانية ترسل مساعدات بحرية إلى القطاع من مغبة وعواقب مثل هذا العمل. وكعادة بعض القانونيين التقليديين فهناك حرص عظيم من قبل التقرير على مصير العلاقات الثنائية بين الطرفين التركي والإسرائيلي دون أي اعتبار لمصير الفلسطينيين الذين لا يمثلون مواطنين لدولة مستقلة. غير أن التقرير ينتقد الممارسات الرسمية الإسرائيلية بحق المحتجزين الأتراك وقتلهم على ظهر السفينة ويعتبر ذلك خرقاً للقانون الدولي الإنساني. والحقيقة أن المواقف العربية والتركية الرافضة لهذا التقرير، لم تقنع الأمين العام بضرورة عرض الموضوع على أهميته، على المحكمة الدولية. بل اكتفى بحثّ كل من تركيا وإسرائيل على قبول نتائج هذا التقرير، غير أن هناك بعض المحامين الأتراك ممن يزمعون رفع قضايا جنائية بحق الحكومة الإسرائيلية وقادتها العسكريين. ولقد تعودنا دوماً على انحياز فاضح لإسرائيل مثلما حدث في تقرير غزو الضفة الغربية من قبل شارون عام 2002، الذي سمي بتقرير مذبحة جنين، على رغم أن سلطات الاحتلال لم تسمح يومها لمحققي الأمم المتحدة بالقيام بأعمالهم وتحقيقاتهم في الضفة الغربية المحتلة. وإذا ما كانت تقارير الأمم المتحدة ذات الطابع القانوني تأخذ سمة وانحيازاً سياسيّاً، فكيف إذن بالقرارات السياسية التي ستعرض على الجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر سبتمبر الحالي، والخاصة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية الجديدة، وحدودها الشرعية التي اعترفت بها قرارات مجلس الأمن السابقة. هنا سنجد أن الضغوط الأميركية، سواءً على مجلس الأمن أو على الأمين العام للأمم المتحدة، ستتعاظم ليتخذ موقفاً معارضاً لرغبة الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره. والأولى بالسيد "بان كي مون" أن يكون ممثلاً لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وليس مدافعاً عن وجهة نظر بعض الدول الكبرى، خاصة في مثل هذه الحالات العدائية الغاشمة.