ما الذي تستطيع السياسة الخارجية لقوة دولية متوسطة مثل فرنسا تحقيقه في عالم تضرب فيه العولمة بأطنابها، وتتسيَّد فيه الأحادية القطبية بشكل صارخ؟ هذا السؤال هو ما ظل الكاتب الفرنسي فردريك شاريون يبحث له عن إجابة في بحوثه وأعماله العلمية العديدة طيلة العقد الماضي، وخاصة منها آخر كتبه الذي صدر قبل أسابيع قليلة، وعنوانه: "سياسة فرنسا الخارجية، من نهاية الحرب الباردة إلى الربيع العربي"، الذي يقارب فيه ذات الموضوع من خلال تتبع وتحليل توجهات سياسة باريس الخارجية على امتداد العقدين الماضيين وخاصة منها ما يتعلق بالعالم العربي، انطلاقاً من المبادئ السياسية الحاكمة التي أرستها أصلاً اللحظة الديغولية تجاه العالم العربي المعروفة باسم "السياسة العربية"، وحتى آخر استحقاقات ما بات يسمى الآن أيضاً بالربيع العربي. وربما يتعين قبل المضي قدماً في الاستطراد، أن نشير إلى أن "فريدريك شاريون" مؤلف هذا الكتاب الذي نقترح هنا إشارات وتنبيهات سريعة إلى محتواه، باحث متمرس في الدراسات السياسية والدولية، وهو مدير معهد البحوث الاستراتيجية في المدرسة العسكرية الفرنسية المرموقة (Irsem). ويرى "شاريون" ابتداءً أن تشابك العلاقات الدولية في الواقع الراهن، فائق التعولم، هو ما فرض على فرنسا أن تكف عن التصرف في مجال السياسة الخارجية على النحو الذي كانت تفعل في السابق، وإن كان موروث وتقاليد دبلوماسيتها السابقة يجعل القطع معه بشكل كامل أمراً متعذراً أيضاً وخاصة منه وسائل وآليات التحرك الدبلوماسي التي أثبت الزمن فاعليتها. ومن هنا وجدت فرنسا منذ مجيء ساركوزي إلى قصر الأليزيه سنة 2007 نفسها أمام خيار صعب بين الاستمرار في روح الدبلوماسية الفرنسية ذات المنشأ الديغولي القائمة على ضرورة الحفاظ على تفرد وخصوصية المواقف الفرنسية وعدم الاصطفاف حول الموقف الأميركي في كل كبيرة وصغيرة دون أن يعني ذلك انفكاكاً من التزامات فرنسا كدولة فاعلة ضمن الغرب الأطلسي، أو القطيعة مع تلك السياسة المتفردة والانخراط مع الحلفاء الأطلسيين وفي مقدمتهم الأميركيون، وكل ذلك لزوم التأقلم مع تحديات وتعقيدات الواقع الدولي الراهن أحادي القطبية وذي المنزع الأميركي، أولاً وأخيراً. وكما يمكن أن نتوقع فقد نزع ساركوزي -وهو صاحب شعار "القطيعة" المشهور- بسرعة إلى منطق عدم الاستمرار، ولهذا فقد عمل كل ما في وسعه للزج بفرنسا في معمعة مختلف القضايا والصراعات الدولية، متجاوزاً بذلك دبلوماسية سلفه شيراك التي كان منتقدوها يرون أنها متحفظة أكثر مما يلزم، كما أن مسافة الأمان التي أخذتها من المواقف الأميركية، خاصة خلال حرب العراق، جعلتها عمليّاً في حالة عزلة دولية وغياب واضح عن التأثير في مختلف الرهانات العالمية. وخلال صفحات كتابه الـ240 يتتبع شاريون ملامح الانعطافة الكبيرة التي أحدثها ساركوزي في اتجاه ومستويات انخراط السياسة الخارجية الفرنسية على المسرح الدولي، وخاصة من ذلك مستوى الأداء الملفت للدبلوماسية الفرنسية ضمن الاستجابات الدولية الراهنة لاستحقاقات الربيع العربي، حيث عوضت باريس أداءها المخيب للآمال تجاه الثورة التونسية حين لعبت فيما بعد دوراً محوريّاً في دعم الثورة الليبية، وفي تعبئة المجتمع الدولي للوفاء بالالتزام الإنساني الملح الذي يفرضه واجب حماية المدنيين الليبيين من بطش نظام القذافي. ويرى الكاتب أن الطريقة القوية التي أدار بها ساركوزي استجابة بلاده لاستحقاقات التحول الجاري على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط سيجعل موضوعات السياسة الخارجية تحتل مكاناً محوريّاً في سجالات الحملة الانتخابية الرئاسية الفرنسية العام المقبل، وأن ثمة ثلاثة محددات لهذه السياسة فرضها عهد ساركوزي سيتعين على من يفوز في رئاسيات 6 مايو 2012 أن يضعها في حسابه، وأن يبني عليها مقارباته الدبلوماسية خلال السنوات المقبلة هي استحقاقات الحفاظ على استقلال قرار فرنسا باعتبارها دولة ذات تقاليد ديغولية متفردة في السياسة الخارجية. والتزاماتها باعتبارها دولة غربية أي طرفاً فاعلاً ضمن هذا الغرب الكبير بجانبيه الأطلسيين الأوروبي والأميركي. وكذلك التزاماتها الإنسانية باعتبارها دولة ذات دور مهم على الساحة الدولية. ولعل آخر ما يمكن الإشارة إليه ضمن هذا العرض الموجز أن كتاب شاريون يكاد يلتمس لسياسات ساركوزي المبررات أكثر مما يسعى للبحث لها عن معانٍ وسياقات تحليل سياسي محايدة وغير قابلة للاتهام بالتذهنية والتأملية، كما أنه لا يرى أيضاً داعيّاً للتمييز المفهومي بين دلالة كل من كلمتي "الدبلوماسية" و"السياسة الخارجية"، بحسب ما أشار إلى ذلك بعض منتقديه. حسن ولد المختار ---------- الكتاب: سياسة فرنسا الخارجية المؤلف: فريدريك شاريون الناشر: لادوكيمانتاسيون تاريخ النشر: 2011