ربما يمكن القول إن السوق الحرة ظهرت أصلاً مع الأطوار الأولى لظهور المجتمع البشري حيث بدأ نظام السوق في البزوغ عندما ازداد تنوع وعدد السلع المنتجة، فكانت الحاجة للمقايضة ومن ثم ظهرت النقود (بأشكالها الأولى) كوسيلة للتبادل فكانت السوق. ومن هنا جاز القول إن السوق نشأت بنشأة الحضارة الإنسانية ذاتها، أي أن طبيعة خصائص السوق هي، في النهاية، جزء من الطبيعة الإنسانية. ولعل مما يستحق الذكر أيضاً أن محاورات بعض فلاسفة اليونان القدامى مثل سقراط وأفلاطون كانت تدور حول الفضيلة والأخلاق العالية والعدالة وكيفية تحقيقها، ونجد ذلك في محاورة "الجمهورية" لأفلاطون حيث يبحث عن طريقة لبناء المدينة الفاضلة وغيرها من أحلام "اليوتوبيا" من خلال العدالة والحفاظ على الأخلاق العامة وحكم الفلاسفة. وفي المجمل فإن طبيعة السوق تعكس جزءاً من الطبيعة الغائية، حتى لا نقول الانتهازية، للإنسان المتمثلة في محاولة البقاء على قيد الحياة من خلال الحصول على أكبر قدر من العوائد والفوائد، وقد عبّر آدم سميث عن ذلك بآلية اليد الخفية التي تنظم أشكال التبادل، وتضمن تحقق مصالح مختلف الأطراف الفاعلة في السوق. ولذا فإن البحث عن مظاهر وجود علاقة بين السوق الحرة والأخلاق ينبغي أن ينطلق من فهم الطبيعة البشرية أولاً، ومن ثم تطور المجتمعات البشرية التي تتعامل مع السوق الحرة. فالتطور البشري حمل معه كثيراً من التعقيدات الجانبية ولكن الجوهر لم يتغير، وعلى رغم تطور أشكال السوق والأنظمة الاقتصادية المختلفة إلا أن الإنسان كان دائما تواقاً إلى الحرية ومنها حرية السوق وحق الامتلاك، والمثال الأقرب إلى الأذهان هو النظام السوفييتي السابق حيث لم يتوفر على شروط البقاء المستديمة كونه ضد الطبيعة الإنسانية، وفلسفة نهاية التاريخ لفوكوياما هي نتيجة منطقية لعمل الطبيعة البشرية حيث السوق الحرة هي معيار التحكيم بمحاسنها ومساوئها، والاختيار يكون إما بين السوق التنافسية أو سيطرة الدولة على الاقتصاد، فالخيار الأول على رغم بعض الخروقات التي تعرف بالفشل السوقي market failure أفضل من الفشل الكامل الذي عرفه العديد من الدول. وقبل أن ندخل في تبرير الأشكال التي تعمل بها السوق الحرة سواء على تقوية الأخلاق أو تقويضها، لابد لنا من النظر بمنظار جزئي (فردي) على أساس مستوى رفاهية الفرد قبل أن ننظر بالمنظار الكلي (المجتمعي) على المستوى الدولي وأثر العولمة والسوق الحرة في العمل على تعزيز الأخلاق أو تقويضها بين المجتمعات. فعلى المستوى الفردي نجد أن العلاقة بين الثروة والأخلاق قد تكون علاقة غير خطية، بمعنى أنه في بداية تشكل الثروات الشخصية قد نجد بعض مظاهر النزعة الأنانية والاهتمام بالمصلحة الذاتية يطغى على الميل نحو مساعدة الآخرين وتشكيل وفورات خارجية يمكن أن يستفيد كل المجتمع منها، في حين كلما زادت الثروة الشخصية (بعد حد معين) تزداد معها النزعة لعمل الخير للصالح العام والاهتمام بالفقراء ومحاولة تحسين ظروفهم. أما على المستوى الكلي فإن زيادة الرفاهية والدخل القومي لدولة ما قد تؤدي إلى زيادة اهتمامها بمشكلات العالم الفقير واتباع سياسات من شأنها دعم وتعزيز الجهود التنموية في البلدان الفقيرة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. إن الاتجاه الصحيح في البحث المنطقي لمعرفة دور السوق الحرة في تعزيز الأخلاق وتنميتها أو تقويضها يتطلب الإجابة على السؤال المهم: هل ساهمت السوق الحرة -والعولمة الآن- في التنمية الاقتصادية وزيادة الرفاهية أم لا؟ وكيف كانت اتجاهاتها؟ تشير البيانات الحديثة المتاحة إلى أن الاقتصاد العالمي نما بشكل مذهل منذ اعتماد مفاهيم السوق الحرة وظهور الأنظمة الديمقراطية في البلدان المتقدمة منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى حد الآن، فهذا التطور الاقتصادي انتهى بالعولمة التي رفعت الناتج المحلي الإجمالي للعديد من البلدان النامية فضلاً عن المتقدمة، على رغم الأزمات الاقتصادية (التي هي نتيجة الطبيعة الدورية للاقتصاد الرأسمالي)، والحروب التي نشأت بسبب الديكتاتوريات الفردية، إلا أن الأداء السوقي أصبح رائعاً في ظل العولمة عن طريق حركة السلع والخدمات والمعلومات وزيادة الإنتاج، حيث أصبحت السلع رخيصة إذا ما قورنت أسعارها بأسعار سنوات ماضية، وحتى على صعيد السلع الجديدة حيث أصبحت دورة حياة المنتوج في التجارة الدولية (The Vernon Cycle Product) قصيرة نسبيّاً. ومن هنا فإن الأشكال التي تعمل بها السوق الحرة على تقوية الأخلاقيات يمكن تلخيصها في قدرة السوق الحرة على زيادة رفاهية الدول والمجتمعات من خلال العولمة وانتقال التكنولوجيا وزيادة الاعتماد الدولي مما يجعل وجود الأزمة أو مشكلة الفقر وغيرها من المشاكل، هاجساً دوليّاً يسعى الجميع لحله، فضلاً عن أن الدعوة لنشر وتعزيز الديمقراطية ومحاربة الفساد وتخفيض مستويات الفقر في البلدان النامية والدعوة لتطبيق القانون الدولي الإنساني، أصبحت عملًا غير قابل للتحقيق إلا من خلال تطبيق مفاهيم السوق الحرة. وأخيراً، فإن انطلاق ربيع الثورات العربية في تونس ومصر واليمن وسوريا والاحتجاجات الشعبية في بلدان أخرى جاء بسبب الحرمان والفقر وفساد بعض النظم الحاكمة نتيجة السياسات الاقتصادية البعيدة عن روح السوق الحرة حيث لا يتم احترام الملكية الخاصة والتعدي على الثروات العامة، وحيث تعشش اللاتنافسية، فالحرية الاقتصادية هي في النهاية متلازمة من متلازمات الديمقراطية التي تؤدي إلى الرفاهية وبالتالي تتيح حماية أكبر للإنسان والأخلاقيات. ------ أكرم أسود كاتب عراقي ------ ينشر بترتيب مع مشروع "منبر الحرية"