"اعتدنا على القول إن الأمور ستصبح أسوأ قبل أن تصبح أحسن، الآن نقول إن الأمور ستصبح أسوأ قبل أن تظل أسوأ". عبارة مريرة للأكاديمي الأميركي روبرت تريفين تلخص أوضاع الاقتصاد العالمي صيف هذا العام. انخفض لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة تصنيفها الائتماني، وقضت أزمة الديون السيادية في أوروبا على ثقة المستثمرين في أسواق الأسهم الكبرى التي خسرت خلال اليومين الأخيرين فقط نحو 80 مليار دولار. واختُتم الصيف بالإعلان عن انخفاض حاد في مؤشرات الإنتاج الصناعي على جانبي المحيط الأطلسي من أوروبا الغربية إلى الولايات المتحدة، التي فشلت في تكوين فرص عمل جديدة. وأوجزت الوضع أرقام تقرير "مركز أبحاث الأعمال" في جامعة كيمبردج التي كشفت عن "إذعان الاقتصاد الغربي مستكيناً لأطول وأفدح ركود اقتصادي تراكمي خلال قرن". إنه "الركود المضاعف" الذي يقع بعد هبوط كبير ولا يعقبه ارتفاع في المؤشرات الاقتصادية، ويدوم في العادة سنوات طويلة، أو ربما بشكل دائم. هذا "الكوكتيل السُّمي" حسب وزير الخزانة في حكومة الظل البريطانية، سبق وتجرعته اليابان عندما انفجرت فيها فقاعة أسعار موجوداتها عام 1990 ولم تشف منه حتى الآن. "لقد بلغنا الآن سرعة التوقف" حسب عالم الاقتصاد الأميركي نورييل روبيني "ليس في الولايات المتحدة وحدها بل في منطقة اليورو وبريطانيا أيضاً... وقد استنفدنا للأسف أدوات السياسة". وعندما يتحدث روبيني، أستاذ الاقتصاد في "جامعة نيويورك" تنقبض القلوب، فهو الذي توقع انهيار سوق العقارات الأميركية وأزمة الركود عام 2008. وإذا صحت توقعات عدد من المفكرين الغربيين حول انهيار الغرب كما انهارت الإمبراطورية الرومانية فهل يجرّ معه ليبيا التي كانت خلال أربعة قرون قبل الميلاد إقليماً مزدهراً في الإمبراطورية يجهز روما بالغلة الزراعية والزيت والذهب والخيول والمخدرات والعبيد؟ "جاذبية التاريخ أنه يعيد لنا الثقة بالنفس عن طريق زجر الموتى"، حسب الأديب البريطاني الساخر إدوارد فورستر. وقد سمعنا زجر زعماء "الناتو" الذين يتقاسمون كعكة ليبيا كما كان يتقاسمها قادة عساكر"الإمبراطورية الرومانية". وحلف "الناتو" اليوم أقرب ما يكون إلى وصف الفيلسوف الفرنسي الساخر فولتير "هذه الكتلة التي كانت تُسمى الإمبراطورية الرومانية المقدسة ليست مقدسة، ولا رومانية، ولا إمبراطورية". تقارير الصحف الغربية تحدثت عن إطلاق إشارة البدء لتأمين حصة فرنسا وبريطانيا والحلفاء الآخرين من النفط الليبي. وتبعاً لصحيفة "ليبراسيون" الفرنسية انطلقت إشارة البدء منذ بداية الثورة باتفاق عقد في أبريل الماضي بين "المجلس الانتقالي" وباريس "لتأمين حصول فرنسا على 35 في المئة من النفط الليبي الخام مقابل الدعم الكامل والدائم للمجلس". ومع أن المتحدث باسم "المجلس الانتقالي" أنكر وجود اتفاق كهذا إلا أن "جوبيه"، وزير الخارجية الفرنسي أكدّ في حديث لراديو "ر. ت. ل" RTL أن "المجلس الانتقالي" وعد رسميّاً بأن "تُعطى للدول التي ساعدت ليبيا الأفضلية في أعمال إعادة التعمير". وأضاف "جوبيه" أن "هذا أمر منصف ومنطقي". والمنصف والمنطقي في ليبيا، كما في العراق قبلها، فشل سياسة "وداوني بالتي كانت هي الداء". عزم فرنسا على التعويض عما فاتها من غزو العراق، الذي عارضه الرئيس السابق شيراك لن يفوّت عليها لعنة حرب العراق التي قضت على رئيس وزراء بريطانيا السابق، وتلاحق اليوم موظفي وزارة الخارجية في لندن. "المزاج متمرد" بين موظفي الوزارة المذعورين من وجود ما تُسمى"خلية نفط ليبيا" التي تشن منذ مايو حملة هادئة ضد القذافي للسيطرة على تدفق النفط داخل ليبيا. كشفت ذلك صحيفة "الغارديان" التي ذكرت أن "خلية نفط ليبيا" في الخارجية البريطانية "فرضت العقوبات على نظام القذافي بشكل سري، لكنه حاسم لمنعه من تصدير واستيراد النفط، فيما جهزت النفط للثوار في الشرق". ومصدر هذا النفط كمصدر افتضاح الموضوع نفسه، وهي شركة "فيتول" Vitol التي ظهر أن آلان دنكان، وزير التنمية الدولية، الذي جمع ملايين من النفط كان مستشارها وأحد مديريها التنفيذيين. اعتراف الحكومة البريطانية بالتعاون مع "فيتول" التي تتبرع لحزب "المحافظين" الحاكم يثير أسئلة حول تورط الوزير البريطاني في الموضوع أكثر مما يقدم أجوبة، حسب "حزب العمال" المعارض الذي أعلن أن "موارد النفط الليبي تعود لشعب ليبيا"! و"فيتول" من أكبر الشركات العالمية في التجارة بالمنتجات النفطية، حيث تبلغ كميات النفط التي تتعامل بها 5 ملايين برميل نفط يوميّاً، وتدير 200 ناقلة، وغيرها من وسائل نقل النفط والغاز حول العالم، وتتجاوز مواردها السنوية 140 مليار دولار. و"فيتول" موجودة في جميع البلدان الرئيسية المنتجة للنفط، بما في ذلك سوريا والعراق، وقد حكمت عليها المحاكم البريطانية عام 2007 بغرامة قدرها 18 مليون دولار، وذلك لالتفافها حول برنامج النفط مقابل الغذاء خلال الحظر على العراق، وكانت قبلها قد انتهكت الحظر على عقد صفقات مع صربيا، وصدّرت 280 ألف طن من النفط الملوث إلى حكومة باكستان، التي سبّبت أضراراً قدرها مائة مليون دولار. كعكة ليبيا لن تسدّ رمق الاقتصاد الرأسمالي الغربي الذي يدمر نفسه عندما يحوّل الدخل والثروة من العمل إلى الرأسمال. وهذا ما توقعه الفيلسوف الألماني كارل ماركس قبل قرنين، وتؤكد صحة توقعاته أوضاع الاقتصاد الحالية، حسب تصريح نورييل روبيني لصحيفة "وول ستريت جورنال". عدد الأميركيين الذين فقدوا منازلهم بلغ 4 ملايين بسبب القروض الفاسدة خلال العامين الماضيين، وأسعار العقارات تواصل الهبوط، فيما يستمر بالصعود عدد أصحاب المنازل العاجزين عن تسديد القروض. ولم تنقذ "التسهيلات الكمية" سوق العقارات على رغم ضخ البنوك المركزية أموالاً "إلكترونية" بلغت نحو تريليوني دولار. لماذا؟...لأن التريليونات انتهت إلى حسابات الادخار للبنوك الخاصة، ومعظمها أجنبية، أي ذهبت إلى حسابات خارجية، حيث يتجمع عليها "غبار" الفوائد، حسب الباحثة الأميركية إيلين براون رئيسة "معهد الصيرفة العامة" في لوس أنجلوس. وعندما نقول الأزمة الاقتصادية العالمية نعني الغربية بالأحرى، أي اقتصاد الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، ولا تشمل ما تسمى الاقتصادات الجديدة التي تواصل النمو. في آسيا على سبيل المثال يستمر نمو اقتصاد الصين منذ عام 2004 بنسبة نحو 10 في المئة سنويّاً، وفي الهند ما بين 6 و10 في المئة ومعدل النمو نفسه تقريباً في إندونيسيا. ونصيحة اليوم للاقتصادات الغربية قالها مبدع مسرح العبث الأديب الإيرلندي صاموئيل بيكيت: "استمروا في الخسران، استمروا. حاولوا فقط أن تخسروا بشكل أفضل في المرة القادمة".