لا توجد علاقة مباشرة بين اتجاه تركيا إلى التصعيد في مواجهة إسرائيل والمأزق الذي يواجه دورها الإقليمي بسبب ازدياد حدة الأزمة السورية. ومع ذلك، ربما يصرف قرارها طرد سفير إسرائيل وتعليق التعاون العسكري معها الأنظار عن هذا المأزق لبعض الوقت. ولكن قوة قرار تركيا هذا وما يقترن به من تصعيد ضد إسرائيل لا تفيد شيئاً في معالجة مأزق ربما يكون هو الاختبار الأصعب الذي تخوضه منذ أن وضعت قدميها على سلم الصعود الإقليمي في العقد الماضي. فهذه هي المرة الأولى التي تجد فيها تركيا نفسها غير قادرة على أخذ زمام المبادرة منذ أن صار لها دور رئيس في الشرق الأوسط وعلاقاته الإقليمية وتفاعلاته الدولية. وقد استند هذا الدور التركي إلى وضع داخلي متماسك ونموذج ناجح حتى الآن في التطور الديمقراطي والإنجاز الاقتصادي وتجربة إيجابية لحزب ذي خلفية إسلامية وصل إلى السلطة في دولة علمانية. ولكن تركيا حققت نجاحها المشهود في السنوات الماضية، إضافة إلى ذلك، لأنها لم تجد نفسها في وضع يضطرها إلى التزام الحذر الشديد تجاه أزمة قد تكون تكلفة أي خطأ صغير فيها، وربما هفوة أصغر، هائلة. وهذا هو ما يحدث الآن، بعد أن تفاقمت الأزمة السورية الداخلية وبلغت مبلغ الخطر. وكانت هذه الأزمة حين بدأت في صورة احتجاجات شعبية محدودة في النصف الثاني من مارس الماضي صداعاً في رأس تركيا بعد أن صارت سوريا هي بوابتها الرئيسية إلى العالم العربي. أدركت تركيا بسرعة أن الاحتجاجات التي بدأت في سوريا ليست عابرة، ولا هي مجرد نتيجة لتغيير حدث في تونس ثم مصر وانتشرت رياحه في بلاد أخرى، وأنها تفرض بالتالي إجراء إصلاحات تأخرت كثيراً. ولذلك كان أردوغان هو أول من بادر إلى حث الرئيس بشار الأسد على تحقيق إصلاح سياسي ودستوري والإفراج عن السجناء السياسيين من أجل سلامة سوريا واستقرارها. كان ذلك في الثاني من أبريل الماضي بعد أقل من أسبوعين على بدء الاحتجاجات. وتوجه وزير الخارجية التركي داود أوغلو إلى دمشق لهذا الغرض بعد ثلاثة أيام فقط على الاتصال الذي أجراه رئيس حكومته مع الأسد. ولكن عندما ذهب أوغلو إلى دمشق في زيارته الأخيرة في 9 أغسطس الماضي كانت الاحتجاجات قد توسعت والأزمة كبرت في غياب الإصلاحات التي كثر الحديث عنها دون أن يكون لها أثر في الواقع. وشتان بين أجواء الزيارتين، اللتين فصلت بينهما أربعة أشهر فقط. ذهب أوغلو في المرة الأخيرة حاملاً رسالة اعتبرها أردوغان "حازمة ونهائية". فقد صار رصيد تركيا الإقليمي، الذي راكمته على مدى سنوات، مهدداً بالخطر بسبب عدم قدرتها على اتخاذ قرار حازم ونهائي فعلًا إزاء التوسع في استخدام القوة المفرطة ضد الاحتجاجات. وأصبح موقفها، الذي يناور بين النظام ومعارضيه، عرضة للانكشاف عندما بدأت دول عربية في كسر حاجز الصمت عبر اتخاذ مواقف تراوحت بين استدعاء سفرائها لدى دمشق للتشاور ومطالبتها بوقف العمليات العسكرية وإجراء إصلاحات فعلية، والتحذير من أن الأزمة بلغت طريق اللاعودة، وصولاً إلى مناقشة هذه الأزمة في اجتماع مجلس وزراء الخارجية يوم 27 أغسطس الماضي. وعلى رغم أن البيان الذي صدر عن ذلك الاجتماع لم يكن قويّاً، فقد كان مضمونه في مستوى الموقف التركي على الأقل. ولم يكن هذا التطور في الموقف العربي هو العامل الوحيد وراء رفع الغطاء عن المأزق التركي. فقد اضطرت طهران، وهي الحليف الأول لدمشق، إلى المطالبة بالاستجابة للمطالب الشعبية المشروعة على رغم أنها أثارت سأم العالم من كثرة حديثها عن مؤامرة على سوريا. وهكذا أصبحت تركيا في اختبار صعب بشأن كيفية الخروج من المأزق الذي ترتب على وضع قسم كبير من أوراقها في سلة نظام الأسد خلال السنوات الأخيرة عندما جعلته مدخلها إلى دورها الإقليمي الجديد. ولذلك لا يزال صعباً على تركيا أن تحسم موقفها وتحجز لنفسها مكاناً في قطار التغيير في سوريا. وعلى رغم أنها فتحت حدودها أمام آلاف السوريين الفارين من القمع، فهذا موقف إنساني لا يغني عن الموقف السياسي وإلا لكان المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا وضع مصر ضمن الدول التي وجه إليها الشكر عقب سقوط طرابلس وهي التي فتحت حدودها أمام كل أشكال الغوث الإنساني وشجعت عليه. ولكنها ترددت في اتخاذ موقف سياسي حاسم خوفاً على المصريين العاملين في ليبيا. كما أن امتنان السوريين لاستقبال تركيا لاجئين على أرضها ظل مشوباً بخيبة أمل من إحجامها عن إقامة منطقة عازلة آمنة على الحدود لحماية المزيد من اللاجئين. وهكذا تبدو تركيا الآن أمام الاختبار الأكثر صعوبة منذ أن بدأت رحلة صعودها في الشرق الأوسط، وأقامت علاقات وثيقة مع نظام الأسد وأصبحت سوريا هي ركيزة مشروعها الإقليمي إلى حد أن أوغلو زارها أكثر مما زار عواصم دول المنطقة الأخرى مجتمعة خلال الفترة التي تولى فيها وزارة الخارجية. فلم يعد الاعتماد على المناورة بين نظام الأسد ومعارضيه كافيّاً لاجتياز هذا الاختبار الصعب. فقد أصبح الهجوم على موقف تركيا متكرراً في تظاهرات سورية تُرفع فيها لافتات تتهمها بالتواطؤ. كما أن تململًا بدأ يظهر في رد الفعل الرسمي على "النصائح" التركية. ويعني ذلك أن أمام تركيا طريقين كل منهما أكثر وعورة من الآخر: أولهما أن تواصل مناوراتها بين النظام ومعارضيه مخاطرة بتراجع العلاقات مع سوريا سواء بقي هذا النظام أو تغير. وحتى إذا عذر نظام الأسد تركيا لعدم وقوفها وراءه، فلن تبقى سوريا كما كانت لاعباً رئيسيّاً في المنطقة إذا تمكن هذا النظام من الاستمرار لأنه سيخرج من الأزمة ضعيفاً وربما محاصراً أيضاً بدرجة أو بأخرى حتى في حالة إجرائه إصلاحات محدودة. أما في حالة حدوث تغيير في سوريا، فالأرجح أن وجود أصدقاء لتركيا في أوساط الإسلاميين لن يكون كافيّاً لكي يحافظ النظام الجديد على العلاقات غير العادية التي تنامت مع أنقرة في السنوات الأخيرة. أما الخيار الثاني، وهو انحياز تركيا إلى المحتجين في سوريا بشكل حاسم، فهو لا يقل مخاطرة بل ربما ينطوي على مغامرة إذا بقي النظام مع شيء من التغيير في إطاره. كما أن دعم الاحتجاجات والمطالبة بتنحي الأسد لا يضمن بشكل قاطع مصالح تركيا لأن تغيير النظام قد يجعل سوريا في حال عدم استقرار لفترة غير معلومة، وربما يفتح الباب أمام أخطار تهدد هذه المصالح. فياله من اختبار عسير، وكم هو صعب الموقف الذي تجد الحكومة التركية نفسها فيه اليوم وهي ترى الخطر يهدد مشروعها الإقليمي.