من بين جميع الأكاذيب التي كانت تُلقى على مسامع الشعب الأميركي خلال العقود الأربعة الماضية كانت الكذبة الأكبر هي الزعم بأن أميركا ستكون في مقدمة الدول التي تحقق الانتقال من مجتمع العصر الصناعي إلى العصر ما بعد الصناعي. صحيح أننا قد تلقينا استشارات من خبراء تفيد بأننا سنتعرض إلى أنواع مختلفة من التخلخل خلال فترة الانتقال تماماً مثلما حدث قبل ذلك خلال الانتقال إلى العصر الصناعي، وأن أميركا ستخرج من كل ذلك دولة ذات مواطنين أكثر رخاءً وأمناً مقارنة بأسلافهم في العصر الصناعي. وفي يوم العمال عام 2011، وجدت أميركا التي كانت عملاقاً اقتصاديّاً نابضاً بالحيوية في منتصف القرن العشرين أنها قد تحولت إلى حالة ميؤوس منها، وأنها قد فقدت الوظائف التي ساهمت أصلاً في خلق الرخاء المشترك واسع النطاق الذي كان قد جعل منها موضع حسد العالم، وأحلت محلها وظائف -هذا إذا كانت تقدر على إحلال مثل تلك الوظائف في الأصل- لم تنجح لا في توليد الرخاء ولا في تحقيق الأمن. وكان "دانييل بيل" عالم الاجتماع الأميركي الذي يعتبر من أشهر الكُتاب الذين تناولوا موضوع أميركا ما بعد الصناعية في كتابه المعنون "المجتمع ما بعد الصناعي القادم" الصادر عام 1972 قد تنبأ بعصر تسود فيه وظائف الخدمات، والاستهلاك المتصاعد، والاستحقاقات التعويضية لكبار السن والمرضى، والصراع بين الحزبين الرئيسيين على الضرائب. وعندما بدأت نبؤات"بيل" تتبلور على أرض الواقع تسابق أبطال ما يفترض أنه العصر ما بعد الصناعي -بدءاً من المدير الأسبق لشركة جنرال إلكتريك جاك ويلش إلى كل ديمقراطي جديد، وجمهوري قديم- لطمأنتنا والتأكيد لنا على أن أميركا ستزدهر كدولة مبتكرة خلاقة في الاقتصاد العالمي الجديد، وأنها ستخترع التقنيات المتطورة التي يمكنها أن تكلف عمالة أقل مهارة تعيش في شواطئ بعيدة بعملية تجميعها الفعلي. واليوم نجد أن الاقتصاد الذي انبنى على تصنيع الرماد قد انتهى هو ذاته إلى رماد. فاقتصاد "وول مارت- وول ستريت" الذي قام على مدى العقود العديدة الماضية، بتعهيد ملايين الوظائف الصناعية إلى عمال خارجيين، وعوضها بوظائف متدنية الأجر في قطاعي الخدمات وتجارة التجزئة، مع تقديم القروض للمستهلكين بحيث يستمرون في الاستهلاك على رغم ثبات مداخيلهم عند مستويات معينة، والعمل على تغذية -بالقروض أيضاً- ازدهار عقاري مجازف إلى أن انهار القطاع العقاري برمته. والآن بدأنا ندرك مدى الخسائر الذي ألحقها هذا النسق الاقتصادي بالقوة العاملة في أميركا -وعلى وجه الخصوص عمال المصانع. ويكفي هنا أن نشير إلى أن دراسة موثقة نشرت في دورية "ميلكن إنستتيوت ريفيو" قد توصلت إلى أن متوسط مداخيل الرجال في المرحلة العمرية 25 إلى 64 قد انخفض بنسبة 28 في المئة خلال السنوات ما بين 1969-2009. ويكمن جزء من هذا التدهور في المداخيل من تضاؤل حصة الرجال في سن العمل من الوظائف الكاملة أي الوظائف لدوام كامل التي هبطت من 83 في المئة إلى 66 في المئة خلال الفترة ما بين 1960-2009. إن أي شخص يسعى إلى فهم أسباب التشاؤم والإحباط والغضب الذي يشعر به الأميركيون وخصوصاً الرجال منهم في سن العمل يمكنه الرجوع إلى البيانات والمعلومات المبينة أعلاه. وعلى رغم أن تلك المعلومات والبيانات تثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الضرر الذي أصاب الطبقة العاملة الأميركية لا يرجع إلى تدفق العمالة المهاجرة إلى الولايات المتحدة، ولا إلى الأقليات الأخرى غير البيضاء التي يحصل أبناؤها على الوظائف التي كان يحصل عليها الأميركيون بقدر ما يرجع إلى السياسات الاقتصادية التي اتخذتها النخبة الأميركية متعامية عن الأضرار الفادحة التي ستترتب على النموذج الاقتصادي الذي خلقوه واعتقدوا وحاولوا إقناع الغير بأنه النموذج الذي يجب أن يسود في أميركا ما بعد الصناعية. ومنذ أن انفجر هذا الاقتصاد منذ ثلاث سنوات اقتنع العديد من أفراد تلك النخبة، بأن الأوهام المالية التي كانوا قد أطلقوها لم تكن صحيحة واضطروا إلى إعلان أنهم قد تنصلوا منها على رغم أن الأميركي العادي الذي لا يلم بدقائق الاقتصاد كان قد شفي منها قبل ذلك بسنوات طويلة وقبل انفجار الفقاعة الاقتصادية. ويعد هذا، في الواقع، تحولاً كبيراً في الرؤية الاقتصادية لأميركا، وهو تحول مهدت له دراسات رائدة مثل الدراسة المعروفة بدارسة "جرينستون آند لوني" التي نبعت من المشروع المعروف بمشروع هاميلتون الذي أطلقه" روبرت روبين" وزير الخزانة في عهد كلينتون. والآن فإن تلك النخبة بدءاً من المجموعات الديمقراطية الوسطية -أي التي تتبنى رؤية وسطية- مثل معهد الدراسات التقدمية على سبيل المثال، وأصحاب الطريق الثالث إلى بعض الاقتصاديين مثل خبير معهد هوفر الحائز على جائزة نوبل "مايكل سبنس" إلى المديرين التنفيذيين في المؤسسات والشركات الكبرى والمديرين التنفيذيين السابقين مثل أندرو ليفيرس خبير "داو كاميكلز"، و"أندي جروف" المدير التنفيذي لشركة "إنتل"، باتوا جميعاً يؤمنون بكلمة سحرية واحدة يرددونها وهي "التصنيع".. التصنيع فقط، باعتباره طريق أميركا الوحيد للمستقبل مهما كانت التحديات والعقبات التي تصادفها على الطريق. ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس"