في ضوء موسم الأنظمة المتساقطة، وما عُرف عنها من قبل وما يتكشف من بعد، يُقرأ الكواكبي في "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" كما لو أنه "شاهد عيان" من طراز رفيع ونادر ومغرق في البصيرة. خلاصته التي ينسبها إلى حكماء سبقوه وتتكرر بصيغ مختلفة في بحثه هي ببساطة "الاستبداد أصل لكل فساد". وفي استعراضه لأنواع الاستبداد والمستبدين يمكن التعرّف إلى النماذج التي يشهد العالم العربي حالياً نهايتها، مستنتجاً أن "ما من حكومة عادلة تأسن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمة أو التمكن من إغفالها إلا وتسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد". أما في سبل التخلص من هذا "الوباء"، كما يسميه، فيطرح الكواكبي خمسة وعشرين مبحثاً هي ذاتها الأسئلة التي تؤرق القائمين على إدارة المراحل الانتقالية بعد سقوط الأنظمة هنا وهناك وهنالك. المؤلم في عملية الانتقال أن نهاية المستبد تعيد الشعب إلى أسئلة البدايات لشدّة ما أمعن العهد البائد في العبث بحقائق المجتمع خلال سعيه الدائب إلى تطويع الناس وقولبة العقول. يقول الكواكبي إن الاستبداد "يضطر الناس إلى استباحة الكذب والتحيّل والخداع والنفاق والتذلل، وإلى مراغمة الحس وإماتة النفس ونبذ الجدّ وترك العمل"، فإذا بهم بعد التخلص من الاستبداد يواجهون موجبات إعادة المفاهيم إلى نصابها: الأمة، الحكومة، الحقوق، المساءلة، الأمن، سلطة القانون، القضاء والعدالة، التربية، التنمية، فضلاً عن العلاقة أو الفصل بين الدين والدولة... أي كل ما تعكف عليه حالياً "خرائط الطرق" إلى دولة الشعب على أنقاض دولة الفرد المستبد وزمرة المستفيدين من حكمه. هذا "الكتالوج" يحيل الباحثين إلى إعادة ورصد ماكان يسمى "أخطاء" ارتكبتها حكومات في ظل حكم الفرد. أنها "أخطاء" معروفة قبل وقت طويل من سقوط نظامه، إلا أنها ليست أخطاء وإنما ابتكارات توصلت إليها عقلية الحاكم إما بهدف تمجيد ذاته أو حماية لدوام سلطانه أو للذهاب أبعد فأبعد في إخضاع رعيته وتأجيل استفاقتها. ولذلك فإن مراجعة لأحوال الأنظمة الخمسة التي اجتاحها "الربيع العربي" تظهر عللاً مشتركة أو متشابهة، إضافة إلى خصوصيات أقل أو أكثر شططاً تميز كلاً منها. ولعل في استيعاب التجارب ما يرشد أنظمة أخرى إلى استصلاح عميق ومكثف لأوضاعها أملاً في أن يدهمها الربيع بجو بديع لا تشوبه قطرة دم واحدة. من تلك السمات المشتركة انبثاق الاستبداد من الشخصية العسكرية للحاكم، إذ واتته الظروف للانتقال من ثكنته إلى سرايا الحكم، وهو لم يتشرّب عقيدة حتمية في أي "جمهورية" طبيعية مفادها أن أهم واجبات الجيش والأمن والاستخبارات أن تحمي النظام المدني ليكون بدوره دعامتها في صون السيادة والدفاع عن الحدود والسهر على الاستقرار العام. ليس في العقلية المعسكرة ما يؤهلها للسياسة، أي للحكم. فالحاكم المدني المنتخب المؤقت المسؤول يخضع للمساءلة والمحاسبة ويتوقع النقد ويتقبله لتصويب مساره. أما الحاكم العسكري غير المنتخب (أو المنتخب اعتباطاً) غير المؤقت فلا يتحمل مسؤولية ولا يتقبل نقداً ولا يصحح مساره لئلا يقال إنه أخطأ. ولأنه يعرف كيف وصل إلى الكرسي فإن أولويته تنكبّ على منع تكرار الظروف التي تتيح لعسكري آخر إطاحته، ولأجل ذلك فهو يخترع جيشاً موازياً وأمناً موازياً ويكثر من الأجهزة ليطمئن إلى أن تربُّصها ببعضها يضمن له اليد الطولى، بل يضمن ما أهم من ذلك: استحالة استخلافه بالقوة واستحالة الأمن من بعده، وبالتالي ارتسام حتمية توريث الجمهورية لمن يختاره هو من ذريته. نأتي إلى "الدولة" التي لا تلبث أن تتحول مع حاكم كهذا إلى دمية مجوّفة وخاوية لا تراكم خبرات ولا تجارب، بدليل التيه والضياع اللذين هيمنا على الإدارة حيثما هبت الاحتجاجات مطالبة أولاً بالإصلاح قبل أن تطالب بالتغيير. بديهي أن الوصف عن بعد يبقى أقل من الحقيقة، إذ ينبغي أن الحاكم الذي بدأ مطلقاً تطور مع الوقت ليصبح أخطبوطاً تتوغل أطرافه وتتمدد في كل مكان من رأس الهرم إلى أسفله، ومن النتائج المعدَّة سلفاً للانتخابات إلى البرلمان وتشريعاته، إلى مجلس الوزراء ومختلف مؤسساته، إلى القضاء و"استقلاليته"، إلى الإعلام، إلى حركة الاقتصاد ورجاله وشركاته. تلك هي منظومة الفساد الممأسس التي يندر أن يُختار فيها شخص لمجرد أنه ذو كفاءة، فالأهم من الكفاءة هو الولاء المطلق. لا عجب إذاً من أن يضرب الإقصاء والتهميش الغالبية العظمى من أبناء الشعب. وعندما ينخر الفساد عميقاً إلى هذا الحد، أفقياً وعمودياً، لا يمكن لأي تنمية أن تنجز، ولا يمكن لأي اقتصاد أن ينشط ويستقيم ويوزع الخير. وقد مرّت اقتصادات الدول المأزومة من اشتراكية أو ما يشبهها طبقت قسراً ولم تحقق سوى حد أدنى من أهدافها، إلى أبشع تطبيقات الرأسمالية بالاعتماد على أريحية رجال الأعمال وانضباطيتهم، فكان انتقالاً من الفساد الأصغر إلى الفساد الأكبر، وفي الحالين تهمشت الطبقة الوسطى وزاد الفقر ومعه كل الأمراض المتفرعة عنه... تلك كانت الوصفة البديهية التي اعتملت عقوداً قبل أن تنفجر أخيراً.