بدلاً من السقوط ضحية لثقافة الصراع القديمة وعقلية "العين بالعين"، لاشك أن الجهود الرامية إلى تكريس ثقافة السلام والتعايش في المشهد السياسي المصري هو أفضل وسيلة لعلاج أية تجاذبات ممكنة الوقوع الآن بين الجماعات الدينية والجيش والناشطين وأفراد الشعب، وقد يكون مثل هذا المسعى هو أفضل فرصة لبناء مصر جديدة قائمة على العدالة الاجتماعية والشفافية والتسامح. ويسعى المصريون اليوم إلى أن يُظهروا للعالم أن باستطاعة المجتمعات أن تتغير وفق إرادتها، فليست مفردات الحياة في القاهرة اليوم هي ذاتها التي كانت بادية للعيان قبل ستة شهور، حيث بدأت الأصوات اليوم تخترق الجمود السياسي والاجتماعي، وحيث بات المجتمع المصري قادراً من خلال ترسيخ ثقافة السلام على تحقيق سابقة لتحول جذري ليس لبلده فقط وإنما للمنطقة بأكملها. تعرّف منظمة اليونسكو ثقافة السلام بأنها "مجموعة من القيم والمواقف وأساليب التصرف وطرق الحياة التي ترفض العنف وتمنع النزاعات من خلال التعامل مع أسبابها الجذرية من خلال حل المشاكل عن طريق الحوار". وفي مصر على سبيل المثال، يمكن لذلك أن يطوّر شعوراً عاماً بأن "الآخر"، الذي اتهم بارتكاب أعمال عنيفة في السابق يمكنه أن يصبح جزءاً من المجتمع، بدلاً من البقاء على الأطراف، حيث يتواجد كثيرون الآن. ويمكن بناء ثقافة كهذه في مصر استلهاماً للنموذج الجنوب أفريقي في التسامح، الذي سمح لتلك الدولة بالتطلع إلى الأمام بدلاً من التركيز على ماضي نظام الفصل العنصري المحبِط والمحزِن. ويمكن لتأصيل ثقافة السلام في الجيل الجديد أن يشكل مصلاً مضاداً قويّاً لانعدام الثقة والعداء الذي قد يكنّه أفراد الجيل القديم ضد بعضهم بعضاً. ويعود أحد أسباب انعدام ثقافة السلام سابقاً في مصر إلى نظام التعليم، حيث كان يتم تعليم التلاميذ المصريين الصغار أنهم مختلفون عن بعضهم بعضاً، وأن دياناتهم تشكل أسباباً للتفرقة. وفي المدارس، يدرس الطلبة المسيحيون تاريخ وعقيدة الدين المسيحي بشكل منفصل، بينما يفعل الطلبة المسلمون الأمر نفسه عن الدين الإسلامي. ويخلق ذلك شعوراً بأن كل مجموعة منفصلة ومغايرة للأخرى عندما يتعلق الأمر بأي قضية وطنية. ففي غياب تعلّم تاريخ الدولة المسلم والمسيحي بشكل جماعي، يساعد ذلك على تكوين فكرة أن مصر كانت وما زالت "مسلمة" أو "مسيحية". وقد قابلت قبل بضع سنوات معلمة تاريخ في مدرسة ثانوية محلية في القاهرة، أرادت أن تستثمر أسبوعاً كاملاً من المنهاج التعليمي لبحث المسيحية واليهودية ودورهما في التاريخ المصري، إلا أن مديرة المدرسة أخبرتها بأنه من غير المسموح لها أن تفعل ذلك. وعن ذلك قالت: "أخبروني بأن مصر دولة مسلمة، وأن الدولة أعطت الطلبة فرصة التعلّم عن المسيحية إذا كانوا مسيحيين"، واستطردت المعلمة وهي محبطة مؤكدة أن الطلبة كانوا يطلقون كلمات نابية ضد زملائهم بشكل منتظم، وقد ظننت أن بعض التعليم عن الثقافات التي تصنع مصر، مثل تاريخ الأقباط والسنوات المبكّرة للإسلام والتكامل الذي جاء بعد ذلك، سيكون له مفعول إيجابي كبير. ولكن الحكومة لم تكن تنظر إلى الأمر من هذا المنظور. وهنا، رفضت مديرة المدرسة الخاصة قبول اقتراحها. أما بالنسبة للمدارس الحكومية فليس هناك جدل، إذ لم تسمح الحكومة ببساطة بالتعليم الديني المتكامل. وقد عملت الثورة على تحطيم هذا الفصل المفروض فرضاً، لمدة شهور قليلة على الأقل، ولكن من خلال جهود حثيثة من قبل التربويين ودعاة السلام، يمكن تحويل المجتمع المصري إلى مجتمع تسوده ثقافة السلام والتعايش، مما يساعد على تطبيق مفاهيم التسامح والتفاهم عبر ما تسميه منظمة اليونيسكو "الحوار وبناء الإجماع واللاعنف الفعال". وفي الوقت الذي تدفع فيه مصر باتجاه عهد جديد من الإصلاح والانفتاح حان الوقت لإيجاد مجتمع يفهم جميع مجالات تاريخه ويتفهم حقوق كل فئاته. ومن خلال ترسيخ أعظم لثقافة السلام والتعايش تستطيع مصر مرة أخرى أن تُظهر للعالم أنها دولة قادرة على السير دوماً إلى الأمام، وساعية باستمرار وإصرار لإيجاد عالم أفضل يعمه السلام والتعايش والتسامح. جوزيف مايتون رئيس تحرير موقع "بكي يا مصر" ينشر بترتيب مع خدمة "كومون جراوند" الإخبارية