منذ إعلانه الاستقالة من منصبه كمدير تنفيذي لـ"آبل"الشركة التي ملأت العالم وشغلت الناس، والأقلام الصحفية لا تكف عن تمجيد "ستيف جوبز" والارتقاء بقيمته في المجتمع الأميركي لينضم إلى صفوف الرجال العظام الذين أغنوا حياتنا باكتشافاتهم الكبرى وأسسوا لصناعات مزدهرة غيرت نمط حياة الأميركيين إلى الأبد، حيث قورن "جوبز" برموز أميركا الكبار الذين دخلوا التاريخ من بابه العريض لإضافتهم المميزة للصناعة الأميركية وقدرتها الإبداعية مثل "توماس أديسون" و"هنري فورد". فعلى غرار "أديسون" مخترع الكهرباء والعديد من الأشياء الأخرى كتب "كين أولتا"، في مجلة "نيويوركر" أن "جوبز": "حقق إنجازاته الكبرى دون دعم من استطلاعات الرأي"، وذلك لأنه، مثلما كان "أديسون"، تخيل منتجات لم يكن أحد قادراً على تصورها ولم تكن موجودة من قبل، وعلى غرار" فورد" أيضاً الذي "صنع أول سيارة تستطيع الطبقة الوسطى شراءها" كما كتب "جو نوسيرا" من "نيويورك تايمز"، تمكن "جوبز" من اختراع أجهزة متطورة يمكن لجميع الأميركيين شراءها واستخدامها حتى في الوقت الذي ظلت فيه رواتبهم راكدة. لكن رغم قدرة "جوبز" العالية على إدارة شركة عملاقة مثل "آبل" وإنتاجه لسلع متقدمة باتت حاضرة حضوراً واسعاً في حياتنا اليومية مثل "آي بود" و"آي فون" و"آي باد" وتقنيات جديدة في التعامل مع الرسوم المتحركة ومعالجتها يبقى من السابق لأوانه مقارنة "ستيف جوبز" بمخترع التيار الكهربائي، "توماس أديسون"، الذي لولاه لما كانت الحياة كما نعرفها في شكلها المعاصر. وفي المقابل يمكننا عقد المقارنة بين "ستيف جوبز" و"هنري فورد"، الذي يعد بحق أب الصناعة الحديثة بعدما طور مفهوم خط الإنتاج وتقسيم العمل وصنع سيارة "موديل-تي"، التي أصبحت أيقونة الثقافة الأميركية، كما نجح من خلال تطويره الإبداعي للإنتاج الصناعي في توسيع الاستهلاك وبالتالي تسريع وتيرة الحياة في المدن والمساهمة في تمددها، ففورد شأنه في ذلك شأن "جوبز"، والعديد من المخترعين الذين ساهموا في رفع الإنتاجية، قد جعل من أميركا بلداً أغنى وأكثر رفاهية، لكنه وأثناء ذلك تفرد "فورد" بما لم يقم به "أديسون" و"جوبز" بعدما نجح في خلق شريحة اقتصادية واجتماعية جديدة في أميركا تمثلت في طبقة عمالية برواتب محترمة وبمستوى معيشي كريم. فقد شرع "فورد" في إنتاج سيارته بأحد مصانع ولاية ميتشجن في عام 1913 وبعد عام واحد فقط أدرك بأنه يستطيع توسيع السوق بدفع رواتب أعلى لعماله تمكنهم من شراء السيارات التي يصنعونها، فقام برفع رواتب عمال الوحدات الإنتاجية بوتيرة خمسة دولارات في اليوم، وهو أمر غير معهود من قبل، لذا فإن "فورد" لم يقتصر فقط على تصنيع السيارة التي تستطيع الطبقة الوسطى اقتناءها، بل بنى الطبقة الوسطى نفسها، وبالطبع لا يعني ذلك أن أول بلد بأغلبية للطبقة الوسطى في العالم كان من صنيعة "فورد" لوحده، بل ساهم في ذلك خصومه من الشركات الأخرى، والاتحادات العمالية والرئيس "فرانكلين روزفلت"، الذي أقر الخطة الجديدة لتصبح أميركا، بفضل تضافر هذه الجهود جميعاً، بلد الرفاهية التي استمتع بها الأميركيون طيلة العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية. وبعكس ذلك، وإن كان "جوبز" قد أسدى خدمات جليلة للمستهلك الأميركي وطور قدرة البلاد الإبداعية في ابتكار منتجات جديدة، إلا أنه تخلى عن الطبقة العاملة الأميركية من غير شريحة المهنيين، والأمر لم يكن دائماً على هذه الحال، ففي أواسط الثمانينيات عندما انضم جوبز أول مرة إلى شركة "آبل" قام ببناء مصنع متطور في ولاية كاليفورنيا ووظف المئات من العمال لإنتاج أجهزة الكمبيوتر، ولأن الأجهزة لم تلق رواجاً كبيراً طرد جوبز وأغلق المصنع أبوابه في عام 1992. لكن "جوبز" عاد إلى الشركة في عام 1996 وفي غضون سنوات قليلة بدأت الشركة في إنتاج منتوجاتها الناجحة والمنتشرة على نطاق واسع، بيد أن الأجهزة التي تصنعها الشركة مثل "آي باد" و"آي بود" و"آي فون" تركب جميعها في الصين من قبل شركة "فوكسكون" التي توظف ما يقارب المليون شخص يعمل، منهم 250 ألفاً لتصنيع أجهزة "آبل" فقط. وحتى العام الماضي عندما اندلعت موجة من الاضطرابات العمالية في الصين وأرغمت الشركة على رفع الرواتب وخفض ساعات العمل كان العمال من الرجال والنساء الذين يصنعون الأجهزة المحببة للأميركيين يعملون 60 ساعة في الأسبوع بخمسين سنتاً في الساعة. ومع أن العمال في أميركا أفضل حالاً، فإن "آبل"تقتصر في الولايات المتحدة على توظيف طبقة من المهندسين ومصممي الرسوم والمدراء والمحاسبين، الذين وإن كانوا يمثلون شريحة من المهنيين الموهوبين، إلا أنها تظل قلة مقارنة مع فئات العمال العريضة في المجتمع. وحسب الإحصاءات، توظف "آبل" نحو 47 ألف شخص حول العالم، لا تزيد حصة أميركا منهم عن 30 ألفاً لا يشملون عمال الإنتاج في الوحدات الكبرى التي يوجد معظمها في الصين. لهذا السبب أتحفظ على ضم "جوبز" إلى قائمة الرموز الأميركية التي أفادت العامل الأميركي، فحتى يتم هذا الأمر يستطيع "جوبز"، الذي ما زال الرئيس العام للشركة إنعاش القطاع الصناعي الأميركي بإقامة وحدات إنتاجية على التراب الأميركي حتى لو كان ذلك يعني تقليص هامش الربح الكبير للشركة الذي يتجاوز حالياً 76 مليار دولار. هارلود مايرسون محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"