في أبريل الماضي شرع السيد أناّ هزاري(78 سنة) الناشط الاجتماعي الذي يحظى بقدر كبير من الاحترام، ويؤمن إيماناً راسخاً بمبادئ المهاتما غاندي، في القيام باحتجاج سلمي على الطريقة "الغاندية"، من أجل إجبار الحكومة الهندية على اتخاذ إجراء قوي للحد من الفساد، وتقديم تشريع بهذا الخصوص في البرلمان الهندي. وقد استمد "هزاري" إلهامه من الثورتين التونسية والمصرية، في الاستخدام المكثف لوسائل الاتصال الحديثة مثل "فيسبوك" و"تويتر"، وخدمات الإنترنت، وهو ما ساعد على انتشار أنباء حملته ضد الفساد واحتجاجه السلمي، كانتشار النار في الهشيم. وقد اضطرت الحكومة الهندية في نهاية المطاف للرضوخ لمطالبة، والموافقة على تقديم مشروع قانون جديد ضد الفساد في البرلمان خلال هذا العام. وكانت الحكومة الهندية قد وفت بوعد سابق، وقدمت بالفعل مشروع قانون لمحاربة الفساد في البرلمان الهندي خلال هذا الشهر، ولكن "هزاري" الذي أمضى عمره كله في النضال من أجل قضايا مماثلة، لم يقتنع بالمواد التي تضمنها المشروع، وأراد إدخال مواد أكثر صرامة تتعلق بمحاكمة رئيس الوزراء وأعضاء الهيئة القضائية. ولم توافق الحكومة الهندية التي يقودها حزب "المؤتمر الوطني" على كل الطلبات التي تقدم بها هزاري، مما دعاه، وهو الناشط الضئيل الحجم، إلى إعلان نيته الدخول في إضراب عن الطعام. وعندما رفضت الحكومة إصدار الإذن له بذلك، وأصر هو على طلباته، لم تجد الحكومة أمامها من وسيلة سوى اعتقاله وإرساله إلى سجن نيودلهي المركزي. وهذا التصرف الذي ينم عن خطأ في التقدير من جانب الحكومة، منح زخماً لحركة هزاري، وأكسبها أنصاراً قدموا من مختلف أنحاء البلاد، بل ومن الخارج أيضاً. وبدأ هزاري إضرابه عن الطعام داخل السجن نفسه، ما أدى إلى استقطاب الآلاف من الهنود الذين سأموا من الفساد المتفشي. وقد ضم هؤلاء أفراد من مختلف الطبقات والتخصصات، بدءا من سائقي التاكسي في كلكتا وحتى خبراء تقنية المعلومات في بنجالور، بل وبعض موظفي الحكومة الذين حصلوا على إجازات من وظائفهم للتعبير عن تضامنهم معه في احتجاجه على الفساد. وكانت الهند التي تمتلك اقتصاداً يعد من ضمن الاقتصادات الأسرع نمواً في العالم، والتي تكسب أرضاً باستمرار على الساحة العالمية، قد ابتليت في الشهور الأخيرة بموجة من الفضائح أثرت كثيراً على صورتها الدولية. وقد بدأت تلك الفضائح في دورة ألعاب الكومنولث التي عقدت في أكتوبر من العام الماضي، والتي كان يفترض أن تؤدي لإظهار مقدرة الهند على تنظيم دورات رياضية ضخمة، بقدر كبير من الكفاءة ولكن شابتها -بدلًا من ذلك - مخالفات وفضائح تضمنت تخصيص عقود بمليارات الروبيات للشركات التي كانت تتولى عملية بناء المنشآت الرياضية استعداداً للدورة. وكانت هناك أيضاً، فضيحة وزير الاتصالات الهندي السابق" آيه. راجا"، الذي يقضي فترة محكوميته في السجن في الوقت الراهن بعد إدانته بالتربح، وجمع ثروة تقدر بمليارات الروبيات من خلال التلاعب في بيع رخص اتصالات شركات الهواتف النقالة للمرحلة G-2. وبعد ذلك تم اكتشاف فضيحة يندى لها الجبين تم فيها توزيع مساكن كانت مخصصة في الأصل لأرامل أبطال الحرب الهنود، على كبار السياسيين وأقاربهم. على خلفية هذا كله تقدم "آنّا هزاري" ليتولى قيادة حركة مجتمع مدني، من خلال الدفع باتجاه المطالبة بتشريعات صارمة للحد من الفساد الضارب أطنابه في البلاد. وسرعان ما لقي نداءه تجاوباً لدى الطبقة الوسطى في الهند. ومن أجل تكثيف الضغط على الحكومة، دخل هزاري في إضراب عن الطعام لمدة 13 يوماً لإجبار الحكومة على القبول بنسخته من مشروع قانون مكافحة الفساد الذي يُخضع جميع موظفي الحكومة ومؤسساتها بما فيها القضاء لسلطته. وطيلة الأيام التي استمر إضرابه عن الطعام، كانت أعداد غفيرة من الطبقة الوسطى الهندية - التي لم يعرف عن أفرادها من قبل المشاركة بفعالية في احتجاجات الشوارع - يتقاطرون إلى المكان الذي اتخذه مقراً لاعتصامه، والواقع في قلب مدينة نيودلهي. وما ساهم في إضفاء المزيد من الزخم على الإضراب عن الطعام، والاعتصام، وتجمعات المحتجين هو التغطية التي كانت توفرها أجهزة الإعلام المحلية والعالمية المختلفة للحدث على مدار الساعة (ظهر هزاري نفسه وفريق المعاونين المقربين له في حوارات في أكثر من 25 قناة تلفزيونية). وقد جرت محادثات عبر قنوات خلفية بين فريق مستشاري هزاري وممثلي الحكومة الهندية، لإيجاد مخرج من هذا المأزق، استمرت لفترة من الوقت، بيد أن التوصل لتسوية بينهما بدا صعباً بسبب تمسك كل طرف بوجهة نظره، ورفضه التنازل عنها. ففي البداية رفضت الحكومة التراجع عن موقفها، وكانت وجهة نظرها أن مشروع القانون قد قدم للبرلمان، وسوف تتم مناقشته داخله، وإجراء التعديلات اللازمة على بنوده وفقا للأصول المرعية، التي تنص على ضرورة حصول القانون على أغلبية أصوات أعضاء البرلمان حتى يمكن تمريره. وشرحت الحكومة بشكل متكرر، بأنها وإن كانت تحترم آراء ورغبات مؤسسات المجتمع المدني التي تعتبرها مهمة، ولا ترى مانعاً من جانبها في إدماج بعض طلباتها في مشروع القانون الجديد، إلا أن إصرار تلك المؤسسات على تنفيذ جميع مطالبها ليس بالموقف السليم لأن البرلمان هو الهيئة العليا في أي نظام ديمقراطي، ولا بد بالتالي من التقيد بإجراءاته. وقد وفرت التغطية الإعلامية المبالغ فيها، والجموع الضخمة التي تقاطرت على المكان الذي اعتصم فيه "هزاري"فرصة ذهبية لخصوم حزب "المؤتمر الوطني"، الذين حاولوا اختطاف القضية لمنفعتهم السياسية. ولكن "حزب المؤتمر"، ونتيجة لإدراكه لطبيعة المحاولات المستمرة التي تبذلها العناصر المنتمية للأحزاب المناوئة له، عمل على تفويت الفرصة عليها من خلال التوصل إلى اتفاق مع هزاري وعدته فيه بمناقشة مطالبه في البرلمان. وهذه الثورة ضد الفساد في المستويات العليا من الحكومة من قبل" الغانديين" لم تسلط الضوء على الضرورة الملحة لسن قوانين صارمة ضد طمع كبار السياسيين فحسب، ولكنها أظهرت بجلاء مدى الحيوية التي تتمتع بها الديمقراطية الهندية، التي يتمتع فيها كل فرد بالحق في التعبير عن وجه نظره طالما أنه لا يحرض على العنف والكراهية.