ماذا ينقص العالم الثالث حتى ينافس العالم الثاني والأول، ولا نقول يتقدم عليهما، نريد أن نحلق من جديد في أجواء الحضارة، بمعنى المساهمة الفاعلة لخدمة البشرية كافة، وليس فقط القيام بشراء منتجات الحضارات الأخرى واستهلاكها. وهذا التفعيل العملي الجاد هو الذي سيجيب عن السؤال القديم والمتجدد: لماذا تقدم الغرب وجزء من الشرق وتأخر في المقابل العرب والمسلمون جملة وتفصيلاً؟ هذا الموضوع سيتكرر ما دامت الحضارات الأخرى تمدنا في كل يوم بجديدها الإنساني، حتى لو كان على شكل شريحة خاصة بالهاتف المحمول. فعندما نقرأ يوميّاً أخباراً على شاكلة: "مايكروسوفت تعرض برنامج ويندوز يعمل على شرائح هواتف محمولة"، أو دراسة حول دموع النساء "تسبب هبوط الرغبة الجنسية عند الرجال"، وغيرها مما تقدم، يتم عرضها علينا من خلال شتى الوسائل الإعلامية، فتصور كيف يشعرنا ذلك بمرارة التخلف ليس في العلم التطبيقي، بل حتى في الشأن الاجتماعي الخاص. إننا أمام تحدٍّ حضاري من نوع سريع، فعندما كتب هنتنجتون سِفره حول "صراع الحضارات" انصب تركيز البعض على الجانب الأيديولوجي وتم استغفال الجانب الحضاري الإنساني، فقد تم حصر تاريخ الحضارات البشرية عبر الزمن وآليات تأثيرها على العالم الشاسع، إلى توصل المؤلف لنقطة زمنية حاسمة تؤكد أن الحضارات القديمة التي استمرت آلاف السنين ومنذ الخليقة أخذت فترة طويلة حتى تبلورت وأعطت ثمارها. أما اليوم، وفي عالم المتغيرات التي تقاس بوحدة "النانو"، فإن اللحاق بها بحاجة إلى عمل مؤسسي ضخم يدك هذا البعد في التغيير الحضاري. ما كان يتم في الألوف من السنين، قد تجاوزه الزمن إلى المئات، بل العشرات من السنوات، سواء في عالم الأفكار أو المنتجات والاختراعات. فما لم ينظر العالم الثالث إلى هذا التحدي الحضاري في مستجداته وتغيراته كافة، فإن الزمن الحقيقي سوف يتجاوزه بقرون، في حين أن الثواني لم تعد تصمد أمام "النانو"، فكيف إذا ما جاء من يتحدى الزمن لعمر "النانو" بما لم يعد يحسب على عالم المستحيلات، بل أصبح من الممكنات الطبيعية. ولو تركنا كل ذلك جانباً، فإننا نلاحظ أن فيلماً انفتاحيّاً لمشروع تخرج طالب في إحدى كليات الإعلام في جامعة محسوبة على التيار الليبرالي في المجتمع يؤدي إلى فصل كل الأساتذة المشرفين على هذا البحث، الذي رآه البعض أن فيه تدميراً للمجتمعات التي لا زالت متمسكة بأهداب الدين والأخلاق، في حين أن المشاريع ذاتها لا تزال في الدول المتقدمة يقوم لها العالم إجلالاً ويلقي عليها آلاف التحايا، إضافة إلى عشرات الجوائز وبراءات الاختراع، ولم يتم تدمير المجتمع نتيجة لذلك الانفتاح الاجتماعي في البنية الأساسية لقيام الحضارات على أصول احترام الجانب المحايد في منتج فكري أو تقني. فالأيديولوجيا الصارخة في الحكم على الأشياء من واقع المحرّم والممنوع لن تترك لمجتمعات العالم الثالث مساحة للحراك نحو بناء شيء يمكن للإنسان في أي مكان الانتفاع به، لأنه سيوأد في مهده، بل نطفته أو بذرته قبل أن تتفرع منه الأغصان والأوراق لتصبح شجرة نافعة للبشرية. ومن هنا لو قام العالم الثالث برمته بشراء كل ما تقذفه مصانع العالم المتقدم وجامعاته، فلن يضيف إلى الجانب الحضاري شيئاً مذكوراً لأنها مُستهلِكة، وحتى بعد هذا الاستهلاك يقوم "الغرب" بإعادة تدوير هذا المستهلَك، ليعيد العالم ذاته استهلاكه من جديد، وهكذا دواليك في حلقة مفرغة حتى تجيء ساعة الإفاقة.