من بين الأمور اللافتة التي عثر عليها ثوار ليبيا عندما اقتحموا مجمع باب العزيزية بطرابلس إثر اختفاء القذافي عن الأنظار ألبوم يضم صوراً لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة، كوندوليزا رايس، ما يشي بإعجاب واضح كان يكنه القذافي للوزيرة السمراء التي احتفظ بصورها في ألبومه الخاص! ولكن الأهم من الإعجاب الخاص أنه كان هناك استعداد للتعامل مع الغرب والدخول في علاقات ودية مع إدارة بوش بعد تصفية بعض الملفات العالقة. ومن الاكتشافات الأخرى التي أماط الثوار اللثام عنها أثناء زحفهم على طرابلس شبكة الأنفاق المعقدة في باب العزيزية ومظاهر البذخ والرفاهية التي تطبع مقر القذافي وعائلته، وهو ما ينمُّ عن انشغال العقيد بهموم أمنه الشخصي وحرصه على تأمين سلامته عبر إقامة الأنفاق السرية والمنافذ القادرة على تأمين خروجه، فضلًا عن حياته المرفهة التي عاشها مع أبنائه، حيث أثثت مقره شاشات التلفزيون المسطحة الضخمة وتوزعت المكان حمامات الجاكوزي الفاخرة دلالة على أجواء الراحة والرفاهية التي أحاط بها القذافي نفسه منعزلًا عن الشعب وهمومه. ولعل أكثر ما صدم الثوار وهم يؤمِّنون طرابلس وينتقلون عبر المواقع التي كان يسيطر عليها في المدينة جرائم كتائبه بقيادة أنجاله بعدما اكُتشفت جثث متفحمة، وروى شهود عيان التعذيب الوحشي الذي تعرضوا له في سجون نظام القذافي، إضافة إلى ما يرشح من تقارير منظمات حقوقية عن إعدامات جماعية طالت معتقلين، وتجاوزات أخرى كثيرة لحقوق الإنسان. وفي ظل مثل هذه الاكتشافات الصادمة نجد أنفسنا منجذبين إلى المقارنة بين الطريقة التي حكم بها القذافي وعائلته ليبيا والممارسات العجيبة التي أخضع لها البلاد، وبين أسلوب صدام حسين وأبنائه في حكم العراق وما تميز به عهده من وحشية واعتباطية في الحكم، وفيما تبدو نقاط التشابه كثيرة بين النظامين مثل تحكم الأقارب والمقربين في مفاصل الدولتين، والهوس المشترك بالأمن الشخصي، والشعور الطاغي بالاستحقاق والأهلية للاستفراد والاستبداد، تبرز أيضاً مع ذلك مجموعة من مواضع الاختلاف بين النظامين، فقد أبدى القذافي على مدى العشر سنوات الأخيرة رغبة في التصالح مع الغرب وطي صفحة الخلافات السابقة وذلك من خلال مجموعة من المبادرات المهمة كان أهمها قراره بمنح تعويضات لضحايا طائرة "بان آم" الأميركية التي اتهمت أجهزة العقيد بالوقوف وراء تفجيرها فوق بلدة لوكربي الإسكتلندية في عام 1988، حيث خصصت مبالغ مالية هائلة لإرضاء أسر الضحايا ومعهم الحكومات الغربية التي مارست ضغوطاً كبيرة على العقيد للاعتراف بالذنب وتسوية القضية. ثم كانت المبادرة الثانية في عام 2003 مباشرة بعد الغزو الأميركي للعراق عندما سلم القذافي ما بحوزته من أسلحة الدمار الشامل إلى الغرب، وذلك في محاولة منه للتخلص من العقوبات الأممية المفروضة عليه بسبب نشاطه في دعم الإرهاب العالمي، ورغبة منه في تأهيل قطاع النفط في بلاده الذي لا أمل له سوى الشركات الغربية واستئناف التصدير للغرب بعدما أنهكت العقوبات الدولية الاقتصاد الليبي ووصل إلى حافة الهاوية، دون أن ننسى إطلاق سراح الممرضات البلغاريات والانتهاء من قضية التهم الموجهة إليهن بالضلوع في نشر الإيدز في ليبيا. وبالطبع ما كان للقذافي أن يقوم بهذا الجهد التواصلي والدبلوماسي الذي أثمر انفتاحاً على الغرب دون وجود مجموعة من المستشارين درسوا في الغرب ويعرفون التعامل معه، وعلى رأسهم نجله، سيف الإسلام. فقد لعب سيف الإسلام الذي درس في بريطانيا، وحصل على شهادة دكتوراه مشكوك فيها من كلية الاقتصاد بلندن، دوراً كبيراً في الدفع نحو الانفتاح على الغرب وإتمام الصفقة الأهم معه المتمثلة في التخلي عن أسلحة الدمار الشامل مقابل بقائه في السلطة. وفي المقابل بالنسبة لصدام حسين تطورت الأمور في اتجاه معاكس حيث أحاط صدام نفسه برجال لا يستطيعون قول "لا" وأطلق يدي ابنيه للتسلط والتحكم في رقاب الناس كما لو أنهما من رجال العصابات، ولم تكن لديهما خبرة في التعامل مع الغرب ولا معرفة به، ومع أن صدام أعطي العديد من الفرص على غرار القذافي للاتفاق مع الغرب حول أسلحة الدمار الشامل من خلال فتح المجال أمام المفتشين الدوليين، إلا أنه أصر على الرفض. واللافت أنه كان رفضاً غير مبرر أساساً لأن صدام تخلص من أسلحته منذ البداية وما كان للمفتشين أن يجدوا شيئاً أصلاً لو سُمح لهم بدخول العراق وأداء عملهم دون عراقيل. وكل ما هنالك أن صدام لم يكن يريد الظهور في المنطقة أو أمام شعبه على أنه ضعيف، أو على أنه لا يملك أسلحة دمار شامل، ولذا كان من الأسباب التي ساقتها إدارة بوش لغزو العراق البحث عن أسلحة غير موجودة أصلًا. كما أن صدام ارتكب أيضاً سلسلة من الأخطاء الفادحة البعيدة عن الحكمة، فقد تورط في حرب مع إيران ثم غزا الكويت وقاوم المفتشين الدوليين، وهو ما كانت له تداعيات مدمرة على العراق. وإذا كان صدام قد حظي بالتركيز الدولي فذلك لأنه كان متهوراً، ولم يحسن استغلال الفرص التي تعامل معها نظام القذافي بدهاء، فهذا الأخير لا يقل في قسوته عن نظام صدام، بل لقد انخرط في دعم شبكات الإرهاب الدولية ووصل به الأمر إلى حد إطلاق الرصاص على شرطية بريطانية أمام سفارة بلاده في لندن وقتها، ومع ذلك استطاع ترميم علاقته مع دول الغرب بعدما فتح الباب لشركاتها للمجيء إلى ليبيا والاستثمار في قطاعها النفطي. أما في المرحلة الحالية وبعد انهيار نظام العقيد في ليبيا فإن الأنظار تتجه إلى سوريا ونظام بشار الأسد وما إذا كان سينهج أسلوب صدام المتهور، أم سيتعلم من القذافي. ومع أن سوريا لا تتيح القدر نفسه من الفرص التجارية والاستثمارية التي وفرها العراق وليبيا الغنيين بالنفط، فإن الأسد يدرك أن موقفه ربما يكون أقوى بالنظر إلى عدم تحمس القوى الغربية في هذه المرحلة للدخول في مغامرة عسكرية في الشرق الأوسط غير معروفة العواقب. ولكن على رغم ما يبدو من صلابة النظام في دمشق فإنه عندما تصل الأمور إلى نقطة اللاعودة وتتسارع وتيرتها فسيصعب عليه وقف الانهيار تماماً مثلما حصل في الحالة الليبية.