أكتب هذا المقال من مصر حيث الثورة المصرية حية وبخير وتطلق مطالبها الثورية من ميدان التحرير، إذ أقدم الثوار المصريون على نحو جريء على الدخول إلى السياسة الخارجية ونظموا، إلى جانب نشطاء سياسيين آخرين، اعتصامات ومسيرة مليونية إلى السفارة الإسرائيلية في القاهرة طالب خلالها المحتجون، الذين يشعرون بالغضب لمقتل خمسة جنود مصريين في سيناء، بطرد السفير الإسرائيلي في مصر. ولعل اللافت أكثر هو حقيقة أن اتفاقية كامب ديفيد، التي حكمت العلاقة بين مصر وإسرائيل على مدى اثنين وثلاثين عاماً على الأقل، بدأت تطرح حولها التساؤلات؛ حيث قال عمرو موسى، الأمين العام السابق للجامعة العربية ووزير الخارجية السابق وأحد المرشحين الرئيسيين للرئاسة، إن اتفاقية كامب ديفيد قد انتهت فترة صلاحيتها. كما قال أيضاً أيمن نور، وهو معارض ومرشح رئاسي سابق خلال عهد مبارك، إن الوقت قد حان لإعادة النظر في الاتفاقية مع إسرائيل. أما محمد البرادعي، الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة وأحد المرشحين الرئاسيين، فقد ذهب هو أيضاً إلى أبعد من ذلك حيث قال إنه سيدرس إمكانية خوض حرب مع إسرائيل من أجل حماية سكان غزة في حال انتخابه. وقد أدلى البرادعي بهذا التصريح قبل أن يكشف الحادث الأخير عن مدى المعارضة الشعبية للتعامل مع إسرائيل. ولكن، لماذا التركيز على اتفاقية كامب ديفيد؟ لأنها أصبحت ترمز إلى عملية صنع قرار استبدادية على قطيعة مع الإرادة الشعبية؛ كما أصبحت ترمز إلى الإذعان المصري لحروب إسرائيل ضد جيرانها وضد الفلسطينيين. فالإسرائيليون والأميركيون يشيرون إلى اتفاقية كامب ديفيد باعتبارها حجر الزاوية للسلام والاستقرار في المنطقة. وبالفعل، وفرت الاتفاقية السلام والاستقرار -ولكن لإسرائيل فقط وليس المنطقة؛ ذلك أن كامب ديفيد حققت هدفين رئيسيين للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية: فقد ضمنت أن الائتلاف العربي الذي شُكل وشن حرب 1973 بما حققه من نتائج مفاجئة لا يمكن أن يعاد تشكيله مرة أخرى في غياب مصر. ثانيّاً، بتخليص إسرائيل من التهديد المتمثل في أي حملة عسكرية مصرية أخرى، حررت يدها اتفاقية كامب ديفيد أيضاً وأتاحت لها فرص التفرغ لاتباع حل عسكري للنزاع مع الفلسطينيين إلى الأبد. وبالفعل، فما أن أنهى الإسرائيليون سحب قواتهم من سيناء حتى أطلق رئيس وزرائهم حينها ميناحيم بيجن ووزير دفاعه آرييل شارون جيشهما لغزو لبنان في يونيو 1982، حيث ادعيا على نحو مخادع أن حملتهما العسكرية ستتوقف على عمق 40 كيلومتراً داخل لبنان، والحال أن جيشهما ذهب حتى بيروت التي حاصرها وأضرم النار فيها. كما حطمت موجة العدوان تلك البنية التحتية العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وطردت قيادتها السياسية، وأنتجت مجزرتي صبرا وشاتيلا، ولكنها في النهاية فشلت أيضاً في القضاء على روح التحرر الوطني الفلسطينية. والحال أن تلك المواجهة غير المتكافئة على نحو صارخ بين المقاتلين الفلسطينيين وآلة الحرب الإسرائيلية صدمت المصريين الذين كانوا يتابعون ما يجري بلا حول ولا قوة. فازداد غضبهم من حكامهم ومن اتفاقية كامب ديفيد، التي أتاحت مثل هذا الإذلال والعقاب. وقد اتخذت المعارضة المصرية لكامب ديفيد شكل معارضة مستمرة لما يسمى تطبيعاً للعلاقات، الذي كانت ترغب فيه إسرائيل كثيراً وكان المصريون يعارضونه دون هوادة. وهكذا، وبعد أن تحرروا من حكم نظام مبارك وحرصاً منهم على الجهر بما يدور في أذهانهم دفاعاً عن العدالة والكرامة، يقول الثوار المصريون بصوت عالٍ اليوم ما كان كثيرون يقولونه منذ البداية، بنبرة تحدٍّ حيناً وبتردد أحياناً أخرى: إن كامب ديفيد اتفاقية غير متوازنة أفادت أحد طرفي النزاع بينما تركت الأطراف الأخرى منقسمة وفي حالة فوضى. ولعل الأهم هو أن اتفاقية كامب ديفيد قدمت مثالاً دراماتيكيّاً لاختلال لافت في ميزان القوة بين رئيس الولايات المتحدة جيمي كارتر، مستضيف قمة كامب ديفيد، ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجن، والرئيس المصري أنور السادات. فقد كان بيجن مدركاً للامتيازات الاستراتيجية التي كان يتمتع بها مقابل السادات، حيث كان يمتلك شبكة أكبر من الأنصار في الولايات المتحدة وإمكانية أكبر للوصول إلى وسائل الإعلام والمشرعين الأميركيين، وهي حقائق ومزايا تم استغلالها للتلاعب بكل من السادات وكارتر نفسه. ذلك أن هدف كارتر كان في الأساس التوصل إلى اتفاقية سلام شامل تقوم على صيغة قرار مجلس الأمن الدولي المتمثلة في انسحاب إسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة في حرب 1967 مقابل السلام (الأرض مقابل السلام). وقد كان السادات يتقاسم ذلك الهدف مع كارتر ولكنه كان مستاء أيضاً لكون زيارته الدراماتيكية إلى القدس في 1977 لم تساهم في تغيير آراء الإسرائيليين حول الفلسطينيين وحقهم في تقرير المصير. كما كان السادات يشعر بإحباط في كامب ديفيد بسبب تصلب بيجن ورفضه قبول حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، بعد أن كان مستعدّاً لمنح الفلسطينيين الذين كان يعتبرهم مقيمين في "أرض إسرائيل"، شكلاً من أشكال الاستقلال الذاتي، ولكن تحت سيطرة إسرائيلية صارمة. وعندما هدد السادات في لحظة من اللحظات بالانسحاب، هدده كارتر أيضاً بأن العلاقة الأميركية- المصرية ستتضرر نتيجة لذلك. كان بيجن قد جاء إلى كامب ديفيد من أجل الامتياز الوحيد والأوحد المتمثل في الحصول على اتفاقية منفصلة مع مصر -وبالتالي إبعادها عن معسكر المواجهة، بدون الإذعان للمطالب الأميركية أو المصرية في العدالة وتقرير المصير بالنسبة للفلسطينيين. بل إنه رفض حتى مناقشة موضوع القدس، مما أزعج كارتر. كما رفض قبول تطبيق صيغة الأرض مقابل السلام التي صدرت عن مجلس الأمن الدولي على الضفة الغربية. وكان في استطاعة كارتر أن يستعمل النفوذ الكبير جدّاً الذي تتمتع به الولايات المتحدة ولكنه اختار ألا يفعل. وفي النهاية، حقق بيجن أهدافه في حين تُرك كارتر والسادات يحاولان وضع وجه جميل على ما هو في الواقع اتفاقية غير متوازنة. وحتى لدى التفاوض حول سلام منفصل مع إسرائيل، أغضب السادات محيطه بمقاربته الفردية تجاه المفاوضات. فأثناء اشتغالي على كتابي "من كامب ديفيد إلى الخليج" (1993-1996)، أجريتُ مقابلات مع شخصيات رئيسية في محيط السادات حول السلام المنفصل مع إسرائيل. وعلمت أن وزير الخارجية المصري حينها إسماعيل فهمي اختار الاستقالة بدلًا من الذهاب إلى إسرائيل مع السادات. واستبدله السادات بمحمد إبراهيم كامل الذي جاء إلى كامب ديفيد، ولكنه استقال هو أيضاً حين كان ما يزال في كامب ديفيد، مثلما أخبرني، وذلك احتجاجاً على التنازلات التي كان يقدمها السادات. كما أوضح لي بطرس بطرس غالي ونبيل العربي وآخرون أنهم كانوا مدركين لعيوب الاتفاقية النهائية، ولكن الاختلاف مع السادات لم يكن ليصلح عيوب كامب ديفيد. وفي البيئة الثورية الجديدة حيث استُبدل الخوف بجنوح نحو تأكيد الذات، بدأ الناس يتكلمون بصوت عالٍ. فمصر التابعة باتت شيئاً من الماضي، كما يقولون؛ وعلى إسرائيل أن تلتقط الرسالة وتصغي إلى صوت الثورة المصرية.