مع بداية عملية "فجر عروس البحر" التي أطلقها الثوار الليبيون بهدف تحرير عاصمة بلادهم طرابلس، ودخولها منعرجاً حاسماً منذ مساء أول من أمس السبت 20 أغسطس، حيث تمكنوا من إحداث اختراقات في أحياء العاصمة وبسط سيطرتهم على قطاعات حيوية من نسيجها الحضري الواسع، يكونون بذلك قد دقوا بالفعل آخر مسمار في نعش نظام معمر القذافي المترنح تحت ضرباتهم -وضربات المجتمع الدولي- منذ ستة أشهر دون أن يسقط، ضارباً بهذا رقماً قياسيّاً في طول سكرات سقوط الأنظمة في جمهوريات الخريف العربي. ومع انفتاح أفق جديد وبزوغ فجر آخر قادم انتظره الليبيون طويلاً تتجه الأنظار الآن إلى تحركات قيادة الثوار السياسية ممثلة في المجلس الوطني الانتقالي، الذي نجح حتى الآن في إدارة دفة الصراع بفعالية على الأرض، كما حقق أيضاً اختراقات ونجاحات سياسية لافتة على الساحة الدولية بنيله اعتراف عشرات الدول العربية والأجنبية بكونه الممثل الشرعي والوحيد للشعب الليبي. وضمن هذه القيادة السياسية يعلق كثير من المراقبين، والمهتمين بالشأن الليبي، آمالاً عريضة على تحركات مسؤول المكتب التنفيذي في بنغازي الدكتور محمود جبريل خاصة، لما لعبه من دور فعال في انتزاع اعتراف عواصم دولية مؤثرة وإقناعها، في المقابل، بسحب اعترافها بنظام القذافي، وهو دور دفع رئيس حكومة القذافي نفسه د. البغدادي المحمودي لمطالبة أحد عملاء النظام باغتياله، وفق ما رشح ضمن تسريبات هاتفية بثتها قناة "ليبيا الأحرار" مؤخراً. وقد تمكن د. جبريل -إضافة إلى شريكه في إدارة ملف دبلوماسية الثوار د. علي العيساوي- من إقناع مختلف العواصم بأن لدى المجلس ومكتبه التنفيذي -الذي يعادل حكومة انتقالية- خططاً وبدائل سياسية مقنعة، تستجيب لتطلعات الشعب الليبي نحو الإصلاح والديمقراطية، وفي الوقت ذاته تضمن عودة ليبيا نفسها إلى حظيرة المجتمع الدولي كطرف مسؤول وجدير بالثقة لدى فضاءيه الإقليمي والمتوسطي، وهي صفة لطالما افتقرت إليها سياسة ودبلوماسية النظام السابق المتقلبة والمزاجية، التي مرت علاقاتها بمختلف العواصم الإقليمية والدولية بحالات جزر ومد، وجذب وشد، لا نهاية لها. ومن هنا أهمية المنجز السياسي الذي حققه فريق د. محمود جبريل، حين نال تلك الثقة الدولية التي لم يستطع دبلوماسيو النظام السابق اجتراحها، وربما ساعده على ذلك انطلاقه في جهوده من رافعة كونه مفكر مستقبليات لا ينقصه الخيال السياسي ولا القدرة على الاستشراف، كما أنه أيضاً سياسي مخضرم ذو تجارب في مجال الإصلاح والديمقراطية. وفيما يلي إشارات إلى جوانب مختلفة من ملامح شخصية د. محمود جبريل، السيرة والمسيرة، السياسي والإنسان؟ ولد محمود جبريل إبراهيم الزيادي الورفلي في ليبيا سنة 1952 حيث أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة، كما درس في جامعة قار يونس ببنغازي، ثم توجه إلى مصر لدراسة الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة التي تحصل منها على شهادة البكالوريوس سنة 1975، وخلال دراسته فيها تعرف أيضاً على زميلته في الدراسة سلوى شعراوي جمعة، ابنة وزير الداخلية المصري الأسبق، التي ارتبط بها لتصبح رفيقة حياته. وبعد عودته إلى ليبيا ذهب في بعثة دراسات عليا مديدة أخذته إلى الولايات المتحدة حيث درس في جامعة بيتسبرج بولاية بنسلفانيا، التي تحصل منها على شهادة الماجستير في العلوم السياسية سنة1980، ثم الدكتوراه في مجال التخطيط الاستراتيجي وصناعة القرار سنة 1984. وبعد التخرج عمل أستاذاً للتخطيط الاستراتيجي في جامعة بيتسبرج ذاتها عدة سنوات، قبل العودة للعمل في بلاده، ثم العمل كخبير مرموق في مجال التخطيط الاستراتيجي وصناعة القرار في البلدان العربية، كما قاد الفريق العربي الذي صمم وأعد دليل التدريب العربي الموحد، وتولى تنظيم وإدارة أول وثاني مؤتمر للتدريب في العالم العربي في سنتي 1987 و1988، وتولى بعد ذلك أيضاً "تنظيم وإدارة العديد من برامج التدريب لقيادات الإدارة العليا في كثير من الدول العربية منها مصر والسعودية وليبيا والإمارات والكويت والأردن والبحرين والمغرب وتونس، وتركيا وبريطانيا"، بحسب سيرة ذائعة الصيت له في الموسوعة الدولية الحرة "ويكيبيديا". وبالإضافة إلى كونه أميناً عاماً لجمعية "الأفق القادم" وهي "جمعية للمستقبليين العرب"، كان أيضاً لمحمود جبريل نشاط علمي وبحثي واستشاري واسع على الساحتين العربية والدولية، كما يشغل منصب رئيس إدارة لمؤسسة "جيتراك" الدولية. وقد اتسمت علاقة الدكتور محمود جبريل مع نظام القذافي بكثير من البرودة والتحفظ، ومع ظهور ما سمي مشروع "ليبيا الغد" الذي سعى سيف الإسلام القذافي خلال السنوات الماضية لتسويقه سياسيّاً وإعلاميّاً تحت يافطة "الإصلاح" و"التحديث"، عمل على استقطاب جهود د. جبريل للاستفادة من خبرته العلمية، وسمعته السياسية، ومكانته الاجتماعية، فتم تعيينه أميناً لمجلس التخطيط الوطني، وهي وظيفة رفيعة تعادل مرتبة وزير دولة، وذلك ضمن تشكيلة اللجنة الشعبية العامة (مجلس الوزراء) التي تم تصعيدها (تعيينها من قبل القذافي) يوم 22 يناير 2007. وطيلة فترة عمله مع حكومة القذافي، ومشروع نجله "الإصلاحي" حرص د. جبريل على أخذ مسافة أمان مناسبة من النظام وما يطبع سياساته من تخبط وارتجال، ولذلك لم يستطع تحمل أكثر من سنتين في هذه الشراكة غير المتناسبة على موائد سلطة معمر المطلقة ومراكب إصلاح نجله الغارقة. وبعدما تيقن، مثل كثيرين، أن المرء حتى لو استعان بملاعق طويلة جدّاً لا يستطيع الاستمرار على ذات المائدة مع الشيطان، لذا قرر نفض يده من أي تعامل مع النظام ومشروع "ليبيا الغد" فخرج من رئاسة المجلس الوطني للتخطيط سنة 2009، متعللاً بالتفرغ لأعماله الاستشارية. وفي سياق مسافة الأمان التي حرص على إبقائها بينه وبين النظام اعتذر أيضاً -لأسباب شخصية- السنة الماضية عن قبول "جائزة الفاتح التقديرية"، وكان "مجلس أمناء الجائزة -التي تأسست سنة 1995، وتعتبر أعلى جائزة أكاديمية ليبية- قرر منحه إياها تقديراً لدراساته الاقتصادية والاستراتيجية". ومع هبوب رياح التغيير، ونشوب ثورة 17 فبراير كان د. جبريل في الموعد، حيث استلم حقيبة تعادل رئاسة الحكومة في المجلس الانتقالي ببنغازي، لتدخل علاقته مع مشروع الإصلاح الليبي مرحلة جديدة تتجاوز من المطالبة إلى المغالبة، وتسعى لاجتراح الإصلاح والتغيير على الأرض، على رغم ممارسات نظام "ملك الملوك" والدم المسفوك. واليوم مع قرب طي صفحة النظام السابق لا شك أن د. محمود جبريل يواجه الآن ضغوطاً كثيفة للإسراع بتشكيل حكومة جديدة، تملأ الفراغ السياسي، وخاصة بعد حل حكومته الانتقالية السابقة على خلفية تداعيات مقتل القائد العسكري السابق للثوار اللواء عبدالفتاح يونس. ومنذ ذلك التاريخ جرت مياه كثيرة تحت الجسر على مسار مجريات الصراع المسلح، إلا أن بطء عملية ملء الفراغ السياسي جعل ثمة حاجة بالغة الإلحاح للإسراع بأداء المجهود السياسي لكي يواكب سيولة الأحداث الميدانية الجارية على الأرض. أما حزمة التحديات التي تنتظر الحكومة الانتقالية الجديدة فليس أقلها إعادة بناء المشهد السياسي الليبي من الصفر تقريباً بعد أربعة عقود من تجفيف منابع العمل السياسي، ومنع الأنشطة الحزبية بموجب مقولات معمر والكتاب الأخضر: "من تحزب خان"، وتعطيل السلطة التشريعية "التمثيل تدجيل"، وتهميش وتهشيم منظمات المجتمع المدني الحرة "لا ثوري خارج اللجان الثورية"... الخ. وأكثر من هذا تواجه الحكومة المنتظرة البديلة أيضاً مهمة احتواء تحديات إدارة ما بعد السقوط النهائي للنظام، ولجم نزعات الانتقام وتصفية الحسابات، بحكم ما قد ينجر عنها من حساسيات قبلية وجهوية، هي آخر ما يفيد مستقبل الثورة والدولة في ليبيا المستقبل. هذا إضافة إلى استحقاقات ضرورة البدء في عملية إعادة إعمار مرهقة بسبب تهالك البنى التحتية، وتداعيات الحرب المريرة التي عرفتها البلاد خلال الأشهر الستة الماضية. وإن كان العمر المفترض للحكومة الانتقالية المقبلة يتوقع ألا يتجاوز ثمانية أشهر، بحسب تقديرات رئيس المجلس الانتقالي المستشار مصطفى عبدالجليل، هي الفترة الكافية للإعداد لانتخابات ديمقراطية حرة نزيهة تنقل ليبيا بشكل لا رجعة فيه من عهد الجماهيرية والشمولية، مرة واحدة وإلى الأبد. حسن ولد المختار