استقطاب وهمي مفتعل سري بين الأنظمة العربية التي تتهاوى الآن. محور الاعتدال ومن يقبل الحل السلمي للقضية الفلسطينية والمفاوضات مع إسرائيل والصلح والاعتراف بها، نموذج كامب ديفيد، وعدم التناطح مع الولايات المتحدة الأميركية التي بيدها 99.9% من أوراق اللعبة. وقد بقي هذا المحور منذ أربعين عاماً ولم تحل القضية الفلسطينية. ولم يتم الانسحاب من الأراضي المحتلة في فلسطين وسوريا ولبنان. وسيناء منزوعة السلاح. وترفض إسرائيل المبادرة العربية ومبدأ مدريد، الأرض مقابل السلام. ومحور الممانعة هو الذي يرفض الصلح والاعتراف والمفاوضة. ويرفض الحل السلمي، ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، ومنذ 1967 باستثناء حرب 1973 لم يتم تحرير باقي الأراضي المحتلة. وظلت الجولان والضفة الغربية وشبعا محتلة. والاستيطان فيها يزيد يوماً وراء يوم، من بضعة آلاف إلى نصف مليون، ومن مستوطنين مدنيين إلى مستوطنين مسلحين لهم الحق في القتل وتعقب الفلسطينيين وطردهم من المنازل والاستيلاء على بيوتهم وأراضيهم وممتلكاتهم. فنتيجة الاعتدال والممانعة واحدة بالنسبة للقضية الفلسطينية على رغم ما يبدو عليهما من اختلاف في الوسائل. فالخلاف بينهما أسطورة، مجرد وهم، وخداع للنفس. صراع مفتعل يستعمله كل محور لإيجاد شرعية على بقاء نظامه. وهو في الحقيقة نظام واحد لهما مصلحة واحدة. كل منهما يمجد زعيمه، ويعتبره بطل الأبطال. كل منهما يعتمد على حزبه الأوحد، الحزب الحاكم، والقائد الذي يأتي السلطة على مدى أربعة عقود بالانتخابات المزيفة، ورئيس الجمهورية فيها مدى الحياة ثم بالتوريث بعده. الغاية واحدة، السيطرة على الشعوب وقهرها، وحكمها بأجهزة الأمن وقوانين الطوارئ والأحكام العرفية. فالدولة في حالة حرب، يتربص بها الأعداء في الداخل والخارج، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة حتى لو كان صوت الشعب، صوت الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. في الممانعة الاحتلال قائم، والاستيطان مستمر، وتهويد الأرض على أشده. والمفاوضات مع الولايات المتحدة قائمة، التي لا ترى مانعا من التعامل مع الممانعة ما دام الأمن والاستقرار سائدين في المنطقة وإسرائيل آمنة على حدودها. والقوة كلها، الشرطة والجيش، موجهة ضد الشعب إذا ما تحرك أو ثار مطالباً بالحرية والكرامة. تتحرك الدبابات والمصفحات تحاصر المدن، وتقتحم الأحياء. ويدهم الجنود والشرطة المنازل لاعتقال النشطاء السياسيين وتعذيبهم حتى الموت. ليست وظيفة الجيش تأمين الحدود أو تحرير الأراضي المحتلة بل تأمين النظام وتحريره من فصائل المعارضة. وليست وظيفة الشرطة وأجهزة الأمن تأمين الحياة المدنية وحمايتها من اللصوص والخارجين على القانون بل تعقب الخارجين على النظام وقادة المتظاهرين. أما المحور الآخر فيعترف صراحة بإسرائيل. يفاوض ويصالح. ويعقد معاهدات منفردة، ويجزئ القضية العربية. ليست إسرائيل بالنسبة إليه قضية وطنية بل قضية اقتصادية. ماذا يمكن أن يربح منها؟ تصدير الغاز أو الإسمنت أو الدقيق، وإقامة الشركات المشتركة، وقبض العمولات من كبار رجال الأعمال ورجال الحكم. لذلك تبدأ إسرائيل بفتح مكاتب تجارية لها في بعض الأقطار. فالاقتصاد مقدمة للسياسة. والاعتدال حليف لأميركا إلى درجة تأييدها في عدوانها على العراق، وصمته تجاه عدوانها على أفغانستان أو العدوان الإسرائيلي على غزة. وبعد خلع مبارك فقدت إسرائيل أعز صديق وحليف لها. اعتدال في الخارج مع إسرائيل وأميركا وتطرف في الداخل مع جماعات المعارضة، واستعمال أشد أنواع العنف ضد المعارضة السياسية. وكلا النظامين، الاعتدال والممانعة، يشتركان أيضاً في الفساد والجمع بين رجال الأعمال ورجال الحكم، بين رجال الثروة ورجال السلطة على نحو شللي. فالدولة نفسها أصبحت قطاعاً خاصّاً يُباع ويُشترى من أفراد عائلة رئيس الجمهورية أو أصدقائه. وتهرب الملايين في الخارج حسباناً للمستقبل. الثروة والسلطة في أيدٍ واحدة. والإعلام جاهز للتزييف، للخطاب الثوري في الداخل والخارج، والترويج للأكاذيب والأوهام كي يصدق نفسه، ويبرر وجوده في السلطة، حماية للوطن من الأعداء في الداخل والخارج، أو حماية للنظام. القول باللسان، والعمل المخالف باليد. وامتد الربيع العربي لكل من الاعتدال والممانعة. وقام الشعب يطالب بحقه في الحرية والعدالة. ولم تنفع إجراءات اللحظة الأخيرة في الإبقاء على النظامين، إقالة حكومة، تعيين حكومة جديدة، تعيين نائب للرئيس، عقد مؤتمر للحوار الوطني بين متكلمين وخطباء والشهداء يتساقطون بالعشرات كل يوم، إصدار تشريعات جديدة للتعددية السياسية، وحرية إقامة الأحزاب، وإجراء انتخابات حرة إلى آخر ما يطلبه ملايين المتظاهرين، ومدافع الدبابات وطلقات الرشاشات واعتداءات "البلطجية" و"الشبيحة" مستمرة. لم يفرق الربيع العربي بين الاعتدال والممانعة لأن كليهما أذلا الشعب وقهراه وتاجرا بالشعارات، الحرب والسلام. المقاومة والصلح. قام الشعب العربي تحت كلا النظامين برفع مطالب واحدة في الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية والمجتمع المدني والعدالة الاجتماعية. فمطالب الشعوب توحدها، والأنظمة وأساطيرها تفرقها. المطالب الشعبية تتجاوز الحدود بين تونس ومصر، وليبيا واليمن وسوريا. فما فرقته النظم وحدته الشعوب. تشترك كل التيارات السياسية في ثورة وطنية واحدة، في جبهة إنقاذ أو في ائتلاف سياسي بين إسلاميين وقوميين وليبراليين وماركسيين، بين إسلاميين وعلمانيين، بين تقدميين ومحافظين، بين يسار ويمين في ثورة وطنية واحدة. فقد وحّد الوطن الجميع. وأصبح الإنقاذ الوطني مسؤولية الجميع. وتحول النظام، من ممانعة أو اعتدال، مدافعاً عن نفسه، متخليّاً عن أساطيره حتى بعد أن لفظه حلفاؤه في الخارج، الولايات المتحدة الأميركية. لقد كسرت الشعوب حاجز الخوف. وكشفت عن زيف الأسطورتين، الاعتدال والممانعة، واستعدت للنضال الشعبي السلمي بالنفَس الطويل، أياماً وأسابيع وشهوراً. والمظاهرة أقوى من الدبابة والمصفحة، والمواطن الأعزل هاتفاً بالحرية والعدالة الاجتماعية أقوى من الجندي المدجج بالسلاح، ووحَّد شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" الملايين في الشارع. ويتركز أحياناً ويصبح "الشعب يريد إسقاط الرئيس" لما كان النظام هو الرئيس، والرئيس هو النظام. خرجت الجماهير، رجالًا ونساء، أطفالاً وشيوخاً، بقيادة الشباب للإعلان عن ميلاد وطن جديد. فقد قامت ثورات "الضباط الأحرار" منذ أكثر من ستين عاماً. وقادت حركات التحرر الوطني والتغير الاجتماعي. ثم تحولت الدولة الوطنية إلى دولة أمنية، وانقلبت الاشتراكية إلى رأسمالية عائلية، والنظام الجمهوري إلى نظام وراثي. وبعد أن استُبعدت الجماهير على مدى نصف قرن من العمل السياسي عادت بكل ثقلها لتفرض وجودها، وتطالب بحقها في السلطة والثروة بدلاً من استئثار رجال النظام السياسي بها. الآن يبدأ عصر الشعوب الحرة والجماهير الحرة من أجل ممارسة الممانعة الفعلية ضد أعداء الأمة في الخارج، إسرائيل، وفي الداخل التسلط والثروة والفساد. الآن يبدأ عصر الوحدة العربية التي تأخرت أيضاً على مدى نصف قرن لأنها كانت وحدة نظم سياسية ممثلة في جامعة الدول العربية. والآن هي وحدة جماهير عربية ممثلة في "جامعة الشعوب العربية". هنا تبدأ قضية فلسطين من جديد تأخذ مسارها الطبيعي منذ ثورة عز الدين القسام. وقد بدأت أميركا تخطب ود الثورات العربية الأخيرة كي تعيد النظر في مصالحها. وبدأت إسرائيل تخشى المستقبل حيث إنها لم تعد تتعامل مع جيوش نظامية عربية ولا مع نظم سياسية عربية بل تواجه شعوباً عربية تعرف كيف تحصل على حقوقها.