Body جاء إعلان الأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون" هذا الأسبوع عن اختيار الدبلوماسي الألماني المخضرم المتخصص في مساعدة الدول غير المستقرة مارتن كوبلر (58 عاماً) مبعوثاً خاصّاً جديداً ببغداد ورئيساً لبعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق "يونامي"، ليؤشر، ولو بطريقة غير مباشرة، إلى مؤدى قراءة المنظمة الدولية للاتجاه الذي ستسير فيه أوضاع بلاد الرافدين، ورؤيتها للخطوط العريضة لطبيعة مهمتها المستقبلية المتوقعة هناك، ذلك أن "كوبلر" يعتبر الآن واحداً من أكثر دبلوماسيي الأمم المتحدة معرفة بالشأن العراقي من جهة، وأيضاً أحد أكثرهم خبرة في مجال المساعدة على استعادة أجواء الاستقرار والتنمية السياسية والاجتماعية وخاصة بالنسبة لبلد كالعراق الذي مر خلال السنوات، والعقود الماضية، بكل تلك التجارب المريرة، من حروب طاحنة، وصراعات طائفية، وعدم استقرار عام واستقطاب سياسي ومذهبي مزمن ما تزال تجلياته ماثلة للعيان حتى الآن. ولا حاجة طبعاً للتذكير بأن المنظمة الدولية نفسها دفعت ثمناً باهظاً لسنوات الجمر العراقية الدامية تلك حين تعرض مقر بعثتها السابق لتفجير مفجع يوم 19 أغسطس 2003 فقتل 22 من موظفيها على رأسهم ممثلها في العراق حينذاك "سيرجيو دي ميلو" كما جرح أكثر من 100 موظف آخرون. وهو ما دفع تاليّاً الأمم المتحدة إلى "إعادة تقييم السياسة الأمنية الخاصة بموظفيها وتخفيض تواجدها الفعلي في العراق"، فيما دل حينها على قراءة غير متفائلة من قبل المنظمة الدولية لمجرى أحداث العراق، وهي قراءة شهدت على صحتها سنوات الحرب الأهلية والعنف الطائفي اللاحقة الممتدة من 2003 إلى أواخر 2006. ومنذ سنة 2007 عادت المنظمة مجدداً لتكثيف تواجدها النسبي في بلاد الرافدين وإن برؤية جديدة، وبوسائل محددة ولكن أكثر فاعلية، حيث لا يتجاوز عدد طاقمها الآن 170 موظفاً دوليّاً، وأكثر من 420 موظفاً محليّاً عراقيّاً. وعلى رأس هذا العدد المتنوع من الموظفين الدوليين العاملين في 16 منظمة وبرنامج وصندوق ووكالة تابعة للأمم المتحدة تنشط كلها في بلاد الرافدين، سيتعين على المبعوث الخاص الجديد "كوبلر" تقديم كافة أشكال المساعدة الضرورية للحكومة العراقية في مجالات التنمية السياسية والاقتصادية، مع كل ما يستتبع ذلك من أشكال التنسيق والتعاون والتواصل بين الأمم المتحدة والعراق. ومع جسامة المهمة وتعقيداتها الكثيرة فإن تجارب "كوبلر" السابقة تجعله مؤهلاً تماماً لأدائها بالطريقة المناسبة، فهو إضافة إلى خبرته الدبلوماسية الكبيرة الممتدة لفترة 25 سنة، يتمتع أيضاً بخبرة واسعة في العالم العربي تحديداً، حيث عمل من قبل سفيراً لجمهورية ألمانيا الاتحادية في القاهرة وبغداد وممثلاً في أريحا، هذا إضافة إلى إجادته لخمس لغات هي الألمانية، والعربية، والإنجليزية، والفرنسية، والإندونيسية. كما عمل كذلك مع عدة بعثات للأمم المتحدة مراقباً لنزاهة العمليات الانتخابية في هايتي، ونيكاراجوا، وكمبوديا. ولعل هذه الخبرة الدبلوماسية العريضة والسيرة الذاتية الحافلة بتنوع المعارف والمهارات اللغوية والثقافية هي ما جعل "كوبلر" يبدو الآن الرجل المناسب تماماً لاستلام المهمة الدولية في العراق. وهي سيرة ذاتية ربما تستحق أيضاً أن نتحول أدناه إلى بعض بداياتها الأولى. ولد مارتن كوبلر في مدينة شتوتغارت الألمانية سنة 1953 حيث تلقى تعليمه الابتدائي والمتوسط، إلى أن تحصل على الثانوية العامة "البكالوريا" في إحدى ثانويات منطقة الراين العليا سنة 1972، وبعد أداء الخدمة العسكرية، انكب على استكمال دراسته الجامعية في مجالات ملفتة كان اختياره لها في تلك المرحلة المبكرة من العمر مؤشراً قويّاً إلى الاتجاه الذي ستسير فيه مسيرة حياته اللاحقة، حيث اتجه إلى دراسة فيلولوجيا (فقه اللغة المقارن) اللغات الآسيوية، إضافة إلى قانون البحار، كما أنجز دراسة عن المنظومة الدستورية الإندونيسية سنة 1976، قبل أن يلتحق ضمن تدريب عملي بالخدمة في قطاع الشؤون الخارجية الألماني من سنة 1980 إلى سنة 1983، لترتبط مسيرته المهنية بهذا القطاع منذ ذلك التاريخ. وخلال الفترة من 1985 إلى 1988 التحق "كوبلر" موظفاً دبلوماسيّاً في السفارة الألمانية بالقاهرة، ومن على ضفاف نهر النيل بدأ الدبلوماسي الشاب استكشاف الشرق بمفهومه الواسع، والعالم العربي منه بصفة خاصة، وخلال تلك الفترة سيكتسب "كوبلر" مهارات واسعة هي ما أهله لإنجاز مهمات جسام لاحقة ستسند إليه في خدمة دبلوماسية بلده ألمانيا، ثم الدبلوماسية الأممية لاحقاً. وخلال سنة 1988 عاد كوبلر للخدمة في مقر وزارة الخارجية الألمانية في بون حتى سنة 1991 حين تم تعيينه في سفارة بلاده بالهند. غير أنه عاد مجدداً سنة 1994 إلى العالم العربي ليشغل منصب رئيس مكتب التمثيل الألماني في أريحا بالضفة الغربية. وبعد استكمال هذه المأمورية عاد مجدداً لمقر وزارة الخارجية الألمانية لاستلام منصب المدير المساعد للقطاع المكلف بمنطقة البلقان ما بين 1997- 1998، ثم تم اختياره بعد ذلك مديراً مساعداً بمكتب وزير الخارجية خلال الفترة 1998- 2000، ليتولى لاحقاً منصب كبير موظفي هذا المكتب في عهد وزير الخارجية الأسبق يوشكا فيشر خلال الفترة من 2000 إلى 2003. وفي سنة 2003 عاد مجدداً إلى القاهرة سفيراً لبلاده لدى مصر ليبقى هنالك في هذا المنصب طيلة ثلاث سنوات، انتقل بعدها لشغل وظيفة سفير لبلاده في العراق طيلة سنتي 2006 و2007. وخلال هذه السنة الأخيرة انتقل "كوبلر" من خدمة دبلوماسية بلاده لينخرط في خدمة المنظمة الأممية، حيث كان آخر مناصبه الأممية شغله لوظيفة نائب رئيس بعثة الأمم المتحدة في أفغانستان "أوناما"، وهو المنصب الذي ظل فيه حتى تعيينه هذا الأسبوع مفوضاً خاصّاً ورئيساً لبعثة الأمم المتحدة المساعدة في العراق "يونامي"، ليحل محل الدبلوماسي الهولندي "أد ملكرت" الذي ترأس ذات البعثة الأممية منذ يوليو 2008. ومع قوة هذه السيرة الدبلوماسية الحافلة، وأهمية معرفة "كوبلر" الواسعة بالعراق الذي راكم عنه معارف وخبرات عملية سابقة، إلا أن المهمة التي اختاره أمين عام الأمم المتحدة لإنجازها في بلاد الرافدين لا تراهن على الماضي أو تعوّل على خبرة مكتنزة بمهارات الذاكرة، وإنما تراهن على مدى قدرته على المساهمة في صناعة المستقبل من خلال مساعدة الحكومة العراقية على إنجاز المزيد من الانخراط في جهود التنمية والإصلاح السياسي والحقوقي، وخاصة أن المنظمة الدولية أصدرت هذا الأسبوع تقريراً واضح السلبية حول أوضاع حقوق الإنسان في العراق خلال العام الماضي، حذرت فيه من استمرار أعمال العنف المسلحة والانتهاكات "الصامتة" لحقوق الإنسان هناك. وأما مصاعب التنمية فما زالت متكاثفة هي أيضاً بشكل بالغ الوضوح كذلك على ما دلت التظاهرات العراقية الأخيرة، في سياقات الربيع العربي، ضد سوء الخدمات وقلة الفرص. ولذا فإن عودة "كوبلر" الآن إلى العراق تبدو هي الرهان الأممي الأكثر فعالية للمساعدة على صناعة مستقبل آخر مختلف، وعهد تنموي جديد، حافل بالفرص والوعود. حسن ولد المختار