أوقع تخفيض التصنيف الائتماني السيادي للولايات المتحدة من قبل "ستاندرز أند بورز" قطاع الأعمال والمستثمرين حول العالم في حيرة وتعقيدات جديدة تضاف إلى الحيرة والتعقيدات الخاصة بقضية الديون في الولايات المتحدة وأوروبا. وعلى رغم أن هذه الخطوة التي تحدث لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة كانت متوقعة في ضوء الأزمة بين الإدارة الأميركية والكونجرس بشأن الديون والإنفاق والعجز، إلا أن رد فعل الأسواق كان عنيفاً إلى درجة أدت إلى شبه انهيار للبورصات العالمية التي لحقتها فيما بعد البورصات العربية والخليجية. وربما يشكل الانخفاض الكبير في البورصات العالمية وضعاً مؤقتاً سرعان ما ستستوعبه هذه الأسواق وتتعامل معه بموضوعية، كما أن هذا الأمر لا يخلو من عمليات مضاربة لتحقيق أرباح سريعة وكبيرة، إلا أن ما يهمنا هنا هو الآفاق المستقبلية لهذا التصنيف الجديد والتاريخي، ومدى انعكاساته على مستقبل الاستثمار في الولايات المتحدة وحجم الخسائر المترتبة عليه، وكذلك مستقبل الاقتصاد الأميركي والعملة الأميركية التي ترتبط بها عملات العديد من بلدان العالم. وفيما يتعلق بالاقتصاد الأميركي، فإن سير الأمور لا يدعو للتفاؤل، فبعد رفع سقف الاقتراض في بداية الشهر الجاري تجاوز حجم الدَّين قيمة الناتج المحلي الإجمالي الأميركي لأول مرة، وهو مؤشر خطير يعيد إلى الأذهان إخفاقات البلدان التي سبقت الولايات المتحدة في هذا الجانب، كاليونان وإيطاليا، وخصوصاً أنه لا تتوفر بدائل للإدارة الأميركية للتقليل من حجم الدَّين العام في المدى القريب على أقل تقدير، مما يعني أن كرة الثلج هذه ستستمر في التدحرج لتتحول إلى قنبلة موقوتة من غير المعروف متى ستنفجر لتدمر كل ما حولها. وفي الوقت نفسه، فإن تخفيض الإنفاق بنسبة كبيرة الذي أقره الكونجرس بالتزامن مع رفع سقف الإقراض ستكون له نتائج وخيمة على الاقتصاد الأميركي، إذ ربما يؤدي إلى المزيد من التباطؤ الاقتصادي وزيادة أعداد العاطلين عن العمل وتقليل القدرة على التعافي السريع للاقتصاد الأميركي. وضمن أمور أخرى يشير ذلك إلى إمكانية انخفاض قيمة الأوراق المالية الأميركية والعائد السنوي عليها، وبالأخص سندات الخزانة التي تستثمر فيها بلدان العالم أكثر من 4,5 تريليون دولار، حيث تبلغ الاستثمارات العربية وحدها في سندات الخزانة 400 مليار دولار، وإذا ما انخفضت هذه السندات بنسبة 10 في المئة كما هو متوقع، فإن الخسائر العربية في هذا الجانب ستبلغ 40 مليار دولار، وذلك باستثناء الخسائر في الأوراق المالية الأخرى، علماً بأن العائد على هذه السندات لمدة عشر سنوات انخفض من 4 في المئة في عام 2008 إلى 2,5 في المئة في الوقت الحاضر. وفي الجانب النقدي سيشكل انخفاض قيمة الدولار معاناة حقيقية للعملات المرتبطة به، بما فيها العملات الخليجية باستثناء الدينار الكويتي، وستتكبد البلدان المصدرة للنفط خسائر جسيمة لارتباط أسعار النفط بالدولار الأميركي. وإذا كان مثل هذا الانخفاض سيساهم في زيادة الصادرات الأميركية، فإنه بالنسبة للبلدان المرتبطة عملاتها بالدولار يعني المزيد من غلاء الأسعار والتضخم وانخفاض عملاتها تجاه العملات الرئيسية الأخرى في العالم وارتفاع قيمة وارداتها من السلع والخدمات. ولذلك، فإن الأمر يتطلب من هذه البلدان المرتبطة بالدولار، بما فيها دول الخليج إعادة رسم سياساتها المالية والنقدية للخروج من هذه الدائرة التي ستزداد تعقيداً مع فترة الانتخابات الأميركية والتنازع بين حركة "حفل الشاي" وإدارة أوباما التي ستستغل فيها الجوانب الاقتصادية والمالية بصورة لم يسبق لها مثيل، مما يتطلب من مختلف البلدان اتخاذ إجراءات احتياطية قبل فوات الأوان وإعادة ترتيب خريطتها الاستثمارية حول العالم التي بدأت في التغير الجذري من خلال توفر فرص جيدة في أوروبا والأسواق الصاعدة، وكذلك النأي باقتصاداتها بعيداً عن الاقتصاد الأميركي المتهاوي وعملته التي لا زالت مرتفعة فقط بالنسبة للروبية الباكستانية والتومان الإيراني ودولار زيمبابوي!