حل رمضان هذا العام على منطقتنا العربية مختلفاً ومغايراً لما اعتدناه حيث إنه هو أول رمضان يطل علينا وسط حراك وتغيير من المحيط إلى الخليج بتنا نسميه تحولاً ثوريّاً. وكذلك لم يعتد رمضان أيضاً أن يشهد أمة العرب على هذه الحال من الحراك والحماس للتغيير. ورمضاننا هذا يشهد على تغيير في قمة الهرم في دولتين مركزيتين هما مصر وتونس كانتا تحكمان بالقوة والانضباط فإذا برئيسيهما يسقطان ويغيبان عن المشهد تماماً. بن علي إلى منفى اختياري، ومبارك يحاكم أمام شعبه وأمام العرب والغرب، وفي مشهد عميق الدلالة تتقدمه صورته داخل القفص، وعلى سرير المرض في كلية الشرطة بالقاهرة. ما هذا التغيير وما هذا التحول وبكل هذه السرعة؟ إن رمضان يشهد هذه التحولات في منطقتنا العربية مع استمرار تدفق الدم في أكثر من دولة ينزف شعبها، من ليبيا إلى سوريا ومن اليمن إلى غيره. في رمضان عام 1998 أوقف الرئيس الأميركي الأسبق كلينتون حملة الأيام الأربعة على العراق في "عملية ثعلب الصحراء" احتراماً لقدسية شهر رمضان الذي حل في ديسمبر من ذلك العام. بينما لم يتوقف الآن سقوط وإراقة الدم العربي من المدنيين الثائرين في سوريا وليبيا واليمن، حيث استمرت المواجهات على رغم سلميتها في سوريا، ودمويتها في حرب مفتوحة بلا أفق في ليبيا. وتزداد دموية المشهد العربي الراهن في رمضان مع الاستخدام المفرط للقوة وتطويق مدن وسقوط مئات القتلى والجرحى لأناس محاصرين يصومون أيام الشهر الفضيل في هجير الصيف، ويفطرون على أصوات مدافع الدبابات وليس مدافع الإفطار، فيما يتصاعد الضغط والحصار الدولي على النظام السوري من خلال بيان رئاسي في مجلس الأمن، وإن كان ممثل العرب الوحيد -لبنان- قد نأى بنفسه عن التصويت، فيما صوتت الدول الأخرى مع البيان الرئاسي الذي ندد باستخدام العنف من النظام ضد المدنيين. مع اقتراب أميركا وفرنسا، وحتى الحليف الروسي، من سحب الشرعية عن النظام السوري الذي بقي يعول على الحاجة إلى دوره في ملفات المنطقة جيوبولتيكيّاً من الصراع العربي/ الإسرائيلي، إلى الشأن العراقي، ولبنان، إلى إيران و"حزب الله" والمنظمات الفلسطينية. تساعد على كل ذلك مخاوف من البديل وهواجس عدم الاستقرار. يحل علينا رمضان أيضاً والأزمة الاقتصادية تضرب العالم من أقصاه إلى أقصاه، والأحوال المالية والاقتصادية تنزف وسط مخاوف حقيقية من تداعيات المواجهة الكبيرة بين الإدارة الأميركية والكونغرس التي كادت تهوي بأميركا لتتعثر عن سداد استحقاقاتها المالية ودفع الرواتب والالتزامات المالية، مما يترتب عليه أثر سلبي على اقتصادات العالم بأسره بما فيها اقتصادات الدول العربية والمسلمة، وقد رأينا تجليات ذلك في أزمة اليونان. وحتى بعد يومين من تجنب الإفلاس الأميركي نزفت بورصات العالم وخسرت البورصة الأميركية الأكبر في العالم في يوم واحد أكثر من 800 مليار دولار في أسوأ انخفاض للبورصة منذ عام 2008، مما ينذر بالمزيد من النزيف والتعثر والبطالة وارتفاع الفائدة التي ستطال أيضاً بتداعياتها اقتصاداتنا واستثماراتنا. ويُخشى اليوم أن تطال الأزمة الاقتصادية إسبانيا وإيطاليا مع ما يعنيه ذلك من آثار كارثية على المستوى الدولي انطلاقاً من أميركا التي رفعت سقف دينها إلى أرقام فلكية لتتجاوز 14 تريليون دولار. لقد تألمنا وبكينا في رمضان هذا وسارعنا للتبرع عن طريق برامج بثها يوميّاً بعد صلاة التراويح تلفزيون الكويت لإنقاذ من يمكن إنقاذه في الصومال والقرن الإفريقي بسبب الحرب والفوضى والجفاف. وصدمتنا الصور لأطفال يحتضرون أمامنا، وصدمنا المذيعون عندما أخبرونا أن الأمهات يتركن أطفالهن الضعاف ليموتوا على قارعة الطريق في رحيلهم من مناطق الجفاف إلى مخيمات الإنقاذ في كينيا وغيرها. وصدمنا المسؤولون الأميركيون عندما أعلنوا أن 29 ألف طفل صومالي قتلوا خلال الأشهر الثلاثة الماضية! فأتى رمضان لكي يحركنا، ليهب العالم لنجدة الصومال والقرن الإفريقي مجدداً بقيادة خليجية وخاصة كويتية وإماراتية وسعودية وقطرية، حيث فتحت كل من هذه الدول جسراً جويّاً لإرسال المساعدات العينية والمالية، وفي حالة الكويت على مدى أيام دشنت حملة تبرعات على التلفزيون الرسمي. ثم ماذا أيضاً؟ لقد أتى رمضان هذا العام على خلفية ووقع استهداف الإسلام. فقبل أيام من حلول الشهر الكريم كان الإسلام مستهدفاً بالتجريح والتشريح على خلفية عملية المتطرف المسيحي، كما أطلقوا عليه، الذي قتل 77 مدنيّاً بريئاً في النرويج. ولكن تمت المسارعة لتوقع أن يكون مرتكب الجريمة الإرهابية مسلماً حتى قبل أن يبدأ التحقيق. لقد وصل بنا الحال كمسلمين إلى أن نُتهم وتوجه إلينا أصابع الاتهام عن أي عمل إجرامي أو تفجير! لاشك أن "القاعدة" والمنظمات الإرهابية وغيرها رسخت هذه الصورة النمطية. ولكن، مؤلم كيف ابتهجنا وتنفسنا الصعداء، وخاصة الجالية المسلمة في النرويج، عندما علمنا أن مرتكب المجزرة في النرويج ليس مسلماً وإنما هو نرويجي. ففرحنا لأننا بُرّئنا من جريمة لم نرتكبها أصلاً. وبعضنا لم يكترث لسقوط الأبرياء لأنه نسي فداحة الجريمة مع تبرئة الإسلام منها! فبتنا نبحث عن البراءة بعد اتهامنا بجريمة لم نرتكبها ولسنا مسؤولين عنها أساساً! والمؤلم، مرة أخرى، ليس فقط سقوط أبرياء لا ذنب لهم ولكن أيضاً المسارعة لاتهام المسلمين كـ"جناة"! والأكثر إيلاماً هو اعتقاد كثيرين، بما فيهم حتى نحن العرب والمسلمين، أن الجاني لابد أن يكون عربيّاً -مسلماً! ألهذا المستوى ولهذا الدرك وصل بنا الحال؟ هذا مؤلم. ومؤلم أكثر نفاق الإعلام الغربي، الذي طالما ظل يفاخر بحياديته، وكيف تغير وصف الجاني من مسلم مجرم إرهابي إلى مسيحي متطرف! ومن إرهاب من صنع محلي إلى تطرف من صنع محلي! وعلى كل حال فقد أثبتت مجزرة النرويج ومرتكبها أن الغرب لم يتصالح بعد مع نفسه ولا مع الإسلام. وأخيراً كلها أسابيع معدودة ويرحل رمضان ليعود بعد عام. ولكن رمضان هذا العام كان مختلفاً كليّاً. ولا ندري طبعاً حالنا التي سيلقانا فيها رمضان القادم. والأمل أن تكون حالنا أفضل مما هي عليه اليوم. وأن نكون قد حسمنا الكثير من الملفات المعقدة ومنها ملف الثورات العربية.