في تقرير مثير للاهتمام تم نشره في الولايات المتحدة من قبل مجلس الأمن القومي الأميركي، وحمل عنوان "الأنماط العالمية 2025: عالم متغير"، ذُكر بأن عالماً متعدد الأقطاب، أي عالم يتسم بوجود مراكز متعددة للقوة، في طريقه إلى الظهور تدريجياً. ويعيد التقرير ذلك إلى عدة أسباب هي بروز القوى الصاعدة الجديدة، والاقتصاد المعولم، والانتقال التاريخي للثروة والقوة الاقتصادية من يد الغرب إلى يد الشرق، وتزايد النفوذ المتنامي للفاعلين غير الحكوميين في شؤون العالم. وآخذاً بتلك الأسباب في الاعتبار، يبدو أن من المناسب التساؤل فيما إذا كان انتشار وتشتت للقوة يجري حالياً في الواقع العملي، ولماذا علينا كدارسين لعلم السياسة أن نهتم بذلك، وماهي الدلالات التي يمكن أن تنتج عنه وتنعكس على السياسات العالمية؟ الوصف الحالي لبنية القوة العالمية بأنها أحادية ليس من السهل الاختلاف حوله رغم التراجعات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها الولايات المتحدة حالياً، فهذه الدولة العظمى الوحيدة في عالم اليوم، لازالت تتمتع بهامش مريح جداً من التفوق على كافة دول العالم الأخرى على صعيدي القوة العسكرية والإمكانيات الاقتصادية. وبالإضافة إلى ذلك تتمتع الولايات المتحدة بحضور دبلوماسي وتواجد عسكري ملموس، وبقدرات دبلوماسية وعسكرية معقولة لجعلها قادرة على إدارة سياسة خارجية عالمية حقيقية، وإنْ لم تكن ناجحة في بعض الأحيان. وهذه القدرات لاتجاريها فيها أية دولة أخرى حالياً، ومن الصعب في الوقت الراهن رؤية أو تصور وجود منظومة من الدول تستطيع خوض حرب ساخنة ضد الولايات المتحدة والانتصار عليها أو حتى مجرد الصمود في وجه تكاليف حرب باردة جديدة. لكن يقابل ذلك أن التاريخ البشري يشير منذ الأزل إلى عدم وجود قطبية أحادية لحفظ التوازن الأمني في العالم إلى أن انهار الاتحاد السوفييتي السابق. لذلك فنحن لا ننكر بأن العالم سيسير ببطء نحو تعددية قطبية من نوع ما لكي تحل بديلاً عن القطبية الأحادية الحالية، فهل هذا يعني أن التعددية القطبية شأن مهم لشؤون هذا العالم؟ وربما أن الإجابة على هذا التساؤل ليست سهلة، لكن فكرة كون القطبية متغيراً سببياً مهماً تنطلق من أدبيات ومقولات المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، التي تشير إلى أن السياسات الدولية هي عبارة عن منظومة من قضايا خدمة الذات. ويعني ذلك أنه مع عدم وجود أقطاب ذات سيادة تقوم بحل الخلافات وتفرض التسويات يصبح لزاماً على كل دولة أن تنظر إلى مصالحها الذاتية في مواجهة مصالح الدول الأخرى، وتصبح كل دولة إذا ما توفرت لديها القوة قادرة على قهر الدول الأخرى. لذلك فإن كل دولة تنظر إلى قدراتها وتقوم بتقييمها في مقابل قدرات الدول الأخرى لكي تستطيع حماية ذاتها. ويتضح من ذلك أن البنى العالمية تظهر باستمرار لكي تشجع الأنماط المختلفة من سلوك الدول، وبأن السياسات العالمية الحديثة، هي على الدوام شأن يخص التعددية القطبية بشكل أساسي. ويعني ذلك أن التعددية القطبية هي نظام يتكون من عدد من الدول ذات القدرات المشهودة، تقوم كل واحدة منها بمراقبة الآخرين بقلق. وخلال فترة الحرب الباردة، لاحظنا لأول مرة في التاريخ الحديث بنية قطبية ثنائية استمرت لأربعة عقود، وذلك منذ القضاء على الدولتين الفارسية والرومانية عند بداية ظهور الإسلام. وخلاصة القول إن عالم ما بعد الحرب الباردة شهد بشكل نادر بنية أحادية للقوة تبدو الآن بأنها لن تستمر لفترة أطول من فترة الحرب الباردة التي اتسمت بالقطبية الثنائية. وضمن الأوضاع الحالية من المتوقع أن تسير بنية القوة العالمية في اتجاه أن تصبح ذات قطبية ثنائية مرة أخرى، وذلك مع نهوض الصين السريع. لكن قبل أن نصل إلى ذلك ربما يشهد العالم فترة من التعددية القطبية كما درج عليه التاريخ البشري، هذا إن قدر للقطبية الثنائية أن تعود إلى الظهور في عمر المستقبل.