ما أبعد يوم الجمعة الماضي (29 يوليو) الذي لم تكن لها من اسمه (الإرادة الشعبية ووحدة الصف) نصيب يُذكر عن جمعات الثورة في نهاية يناير وخلال فبراير 2011 (جمعات الغضب والرحيل والزحف والانتصار). ربما كان الجامع الوحيد بينها هو الحجم الكبير. لكن شتان بين جمعة حشدت لها التيارات الإسلامية حشودها واستعرضت فيها قوتها وهمَّشت الآخرين وجمعات شهدت انصهاراً مدهشاً لألوان الطيف السياسي والاجتماعي المصري كلها. كانت "جمعة الإسلاميين" تجسيداً لاستقطاب حاد ليس جديداً في الساحة السياسية، كما في المجتمع في مصر. فقبل نحو 18 عاماً، وفي عام 1993، أصدر كاتب السطور كتاباً تحت عنوان "مخاطر الاستقطاب الإسلامي العلماني". كان الانقسام بين الإسلاميين وغيرهم آخذاً في الازدياد ومقترناً بعنف مسلح مارسته جماعات أصولية متطرفة. لكن قبضة السلطة الأمنية العاتية حينئذ فرضت سقفاً لأشكال التعبير عن هذا الاستقطاب. أما وقد تغير الوضع ولم يعد هناك أي سقف تقريباً للعمل السياسي الاجتماعي، فقد أخذت الخلافات بين تيارات إسلامية وأخرى ليبرالية ويسارية تتصاعد وصولاً إلى الاستقطاب الذي بدا واضحاً يوم الجمعة الماضي. وبدا ميدان التحرير يومها كما لو أن مصر خلت إلا من التيارات الإسلامية وشعاراتها وهتافاتها التي تراوحت بين التعبير عن موقف سياسي مشروع مثل "لا للمبادئ فوق الدستورية" و موقف شبه تكفيري مثل "لا إله إلا الله... العلماني عدو الله". لم تكن المواقف شديدة التطرف وحدها في الميدان. حاول بعض قادة "الإخوان المسلمين" احتواء تشدد بعض التيارات السلفية وتطرفها. لكن مهمتهم التي ساعدهم فيها سلفيون معتدلون ووسطيون، لم تُكلل بنجاح. ووصل تشدد بعض المجموعات السلفية إلى حد منع بث أغنية وطنية رائعة من تراث حرب 1973 رغم وجود مكون ديني مهم فيها إذ تبدأ بالقول "بسم الله... الله أكبر..) لمجرد أنها مصحوبة بموسيقى وإيقاع. ومع ذلك تمكن "الإخوان المسلمون" والمعتدلون بين التيارات السلفية من طرح شعارات وطنية عامة إلى جانب الشعارات الإسلامية التي ظلت غالبة في كل الأحوال. فلم تكن خافتة تماماً شعارات مثل "مسلمون ومسيحيون.. كلنا مصريون" و"مسلم ومسيحي إيد واحدة" و"ارفع رأسك فوق أنت مصري" وغيرها. غير أن الحشد الهائل الذي طبع ميدان التحرير بطابع إسلامي محض، وخصوصاً بعد انسحاب 32 حزباً وحركة وائتلافاً تعبر عن تيارات ليبرالية ويسارية بعد ظهر ذلك اليوم، أثار سؤالاً عن إمكان توحيد صفوف التيارات الإسلامية جميعها أو على الأقل بناء تحالف متين بينها على نحو قد يفاقم مخاوف من يخشون إقامة دولة دينية. غير أنه إذا كان توحد الإسلاميين المختلفين فقهياً وسياسياً يبدو مستحيلاً، فتحالفهم شديد الصعوبة. وهذا ما يمكن استخلاصه من أية قراءة في خريطتهم السياسية والدينية التي تبدو تضاريسها معقدة وتكثر فيها المنخفضات والمرتفعات. فهناك اتجاهان رئيسيان كبيران هما "الإخوان المسلمون" والأحزاب والمجموعات المنشقة عنهم، والسلفيون بتياراتهم وأطيافهم الكثيرة والمشتتة. ومع ذلك لا يزال "الإخوان المسلمون" وحزبهم (الحرية والعدالة) هم الأكثر تنظيماً في الساحة الإسلامية رغم انشقاق عدد من قادتهم وكوادرهم في الفترة الأخيرة. فإلى جانب انشقاق عضو مكتب الإرشاد السابق الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح لخوض الانتخابات الرئاسية التي قرر "الإخوان" عدم المنافسة فيها، خرج من الجماعة عدد آخر من كوادرها على مستويات مختلفة لتأسيس أحزاب سياسية أخرى مثل "حزب النهضة" (إبراهيم الزعفراني) و"حزب الإصلاح والتنمية" (حامد الدفراوي) و"التيار المصري" (مجموعة من شباب الإخوان) و"الريادة" (هيثم أبو خليل وخالد داوود). وهذا فضلاً عن "حزب الوسط" (أبو العلا ماضي) الذي انشق عن "الإخوان" منذ عام 1995 لكنه لم ينل المشروعية إلا بعيد تنحي مبارك. ومن أصعب الأمور إعادة جمع هذه الأحزاب التي تفرقت بها السبل في جماعة "الإخوان" مجدداً، بل الأرجح أن يخرج آخرون لتأسيس مزيد من الأحزاب الإسلامية في الفترة القادمة. أما السلفيون الذين يتوزعون على مئات الجماعات والمجموعات الحركية والمدارس الدعوية والشيوخ والدعاة، فهم يستعصون على الحصر الآن، باستثناء من انتموا إلى "السلفية الجهادية" المتشددة ثم أعادوا النظر فيها عبر مراجعات بدأت منذ نحو عشر سنوات أو أكثر قليلاً. وكان بعض هؤلاء قد حاولوا تأسيس أحزاب سياسية خلال العقد الماضي حملت أسماء مثل "حزب الشريعة" (ممدوح إسماعيل) و"حزب الإصلاح" (جمال سلطان) و"حزب الاتحاد من أجل الحرية" (منتصر الزيات). وقد باءت تلك المحاولات بالفشل حين كان الحق في تأسيس الأحزاب مكبلاً بقيود هائلة. غير أنه ما أن تغيرت الأجواء بعد ثورة 25 يناير حتى عاد بعض هؤلاء وغيرهم إلى العمل لتأسيس أحزاب جديدة، مثلهم في ذلك مثل بعض السلفيين التقليديين أو الدعويين. وحصل أحدها (النور) على موافقة لجنة الأحزاب الجديدة بالفعل ليصبح أول حزب إسلامي سلفي. وتزداد كل يوم قائمة الأحزاب الجديدة الجاري تأسيسها بواسطة قياديين ومجموعات سلفية، وتشمل حتى الآن "حزب السلامة والتنمية"، و"حزب الإصلاح والنهضة"، و"حزب مصر البناء"، و"حزب الفضيلة" الذي كان على وشك إكمال إشهاره قبل أن يدب الانقسام في صفوفه عقب فشل محاولة لدمج حزب السلامة والتنمية فيه. واتهم أحد أبرز مؤسسيه (د. عادل عفيفي) من اعتبرهم عناصر تنتمي إلى "السلفية الجهادية" بمساندة بعض من شاركوه في تأسيس الحزب سعياً إلى الاستيلاء عليه، وشرع في تأسيس حزب آخر تحت اسم الأصالة. أما "الجماعة الإسلامية" التي حملت لواء السلفية الجهادية المسلحة حتى عام 1997، ثم قامت بمراجعة أفكارها متحولة إلى السلفية الدعوية، فتمارس نشاطاً سياسياً علنياً رغم عدم وجود كيان قانوني لها في الوقت الذي تسعى إلى تأسيس حزب جديد يحمل اسم "البناء والتنمية" . ولم يكن ممكناً أن يبقى بعض مشايخ الطرق الصوفية بعيداً عن السياسة التي لم يزد إسهامهم فيها من قبل عن إصدار بيانات مجاملة للنظام السابق في بعض المناسبات. فقد استفزهم هجوم بعض السلفيين المتشددين وأعلن بعضهم عزمه تأسيس أحزاب، حاملين إلى الساحة السياسية خلافاتهم وانقساماتهم. وقد أُعلن حتى الآن عن البدء في إجراءات تأسيس حزبين هما "صوت الحرية" (طارق الرفاعي) و"التحرير المصري" (ماضي أبو العزايم). وهكذا تبدو خريطة التيارات الإسلامية في مصر شديدة التعقيد على نحو يجعل تحالفها مستحيلاً بخلاف ما أوحى به المشهد في ميدان التحرير يوم الجمعة الماضي.