بين محنة المجاعة في شرق إفريقيا... وإرهاب اليمين المتطرف بغرب أوروبا اغتيال القائد العسكري للمعارضة الليبية، وتحدي المجاعة في القرن الإفريقي، واستمرار ردود الفعل على مجزرة النرويج، موضوعات ثلاثة استقطبت اهتمام كتاب افتتاحيات الصحف الفرنسية. اغتيال الجنرال يونس خصصت صحيفة لوموند افتتاحية عددها أول من أمس لحادث اغتيال قائد قوات المعارضة الليبية اللواء عبدالفتاح يونس، مشيرة في العنوان: "الهشاشة المقلقة للمعارضة الليبية" إلى أن ما جرى من شأنه أن يؤثر سلباً على الصورة العامة عن الثوار الليبيين لدى أكثر من عاصمة، وذلك لأن يونس يعتبر أحد قادة نادرين من ذوي الخبرة في صفوف المعارضة، كما كان يعتبر قياديّاً مؤثراً وسياسيّاً يمكن الثقة فيه والتعويل عليه في مرحلة ما بعد القذافي. ومع أن ملابسات الحادث ما زالت لم تتكشف كاملة إلا أن ما ظهر منها يدعو للقلق، حيث أشار المجلس الانتقالي إلى ضلوع مسلحين محسوبين على نظام طرابلس في العملية، وهو ما يعني، إن ثبت، أن عملاء القذافي وطابوره الخامس، ما زالوا موجودين في المناطق المحررة التابعة لسيطرة المجلس. وإذا ما تمكن أولئك العملاء المندسون من التحرك دون عقاب فإن الخشية تتضاعف من احتمال إلحاقهم الأذى بقيادات ورموز في صفوف الثوار، في الوقت الذي ينشغل فيه هؤلاء الأخيرون بالمعركة الرئيسية المتمثلة في تحرير ما تبقى من مناطق ليبية محاصرة من قبل النظام. على أن هنالك فرضية ثانية مقلقة هي أيضاً، تقول لوموند، وهي احتمال وجود صراع داخل المجلس الانتقالي نفسه، وهو صراع لو وقع ستكون له تداعيات سلبية صاخبة على انسجام تركيبة الثوار حتى قبل الانهيار المتوقع لنظام طرابلس. والحال أن الانقسامات ليست نادرة عادة في صفوف التجمعات السياسية من نوعية المجلس الانتقالي. بل إن كل الحركات المسلحة المناوئة للديكتاتوريات مرت بأحوال من هذا القبيل: الشجارات الإيديولوجية، وسريان الغيرة بين الأشخاص، وغيرها من صراعات واستقطابات فئوية. ومن المعروف أن المجلس يضم تشكيلات ومدارس سياسية مختلفة، تجمعها معارضتها جميعاً القذافي، ومن ضمنها إسلاميون وعلمانيون، وجزء من البورجوازية التجارية، وكلها فئات تصنف ضمن خطوط من الاختلاف في المشارب وفي الانتماءات القبلية. ولذا فإن المجموع لا يخلو من هاشة، وهو ما قد يدعو للشك في قدرات المجلس على ممارسة الحكم. ومن المعروف أن يونس الذي اغتيل مع عقيد ومقدم آخرين، الذي كان رفيقاً قديماً للقذافي ووزير داخلية سابقاً، ينتمي إلى قبيلة العبيدات وهي إحدى أقوى قبائل البلاد. ولاشك أن المجلس الانتقالي خسر رجلاً قويّاً بمقتل يونس، وهو ما قد ينعش آمال طرابلس في إمكانية فرض حل سياسي على المعارضة. ومع ذلك فإن المجلس ما زال يكتسب في كل يوم جديد مزيداً من الشرعية الدولية، وإن كانت ثمة إشارات متواترة إلى أنه ما زال يحتاج أيضاً إلى مزيد من التنظيم، وسد ثغرات غياب إدارة سياسية حازمة وتقوية الحضور العسكري في الميدان. وتختم لوموند افتتاحيتها بالقول إن كل هذه الأمور تعني فرنسا أيضاً، على اعتبار أنها هي أول من اعترف بالمجلس ودعمه. كما أن باريس، ولندن، كانتا المبادرتين بالدفع إلى التدخل العسكري إلى جانب المجلس، وهي سياسة مبررة ولها تبعاتها أيضاً. وفي المجمل فإن الالتزام الفرنسي تجاه الشعب الليبي يجعل باريس معنية أيضاً بملاحظة ما يجري عن كثب. بل إنه يجعلها طرفاً معنيّاً بمتابعة ودعم مستقبل ليبيا. وهذا ما عليها معرفته جيداً وقوله بوضوح. المجاعة والإرهاب تحت هذا العنوان اعتبر الكاتب بيير روسلين في افتتاحية صحيفة لوفيغارو أن المجاعة التي تضرب الآن منطقة القرن الإفريقي تنذر بحدوث كارثة من الحجم الكبير، حيث تتهدد المخاطر هناك اثني عشر مليون شخص، في وقت تحتشد فيه في الأفق جميع عوامل الخطر. فإلى جانب موجة جفاف قاسية زادتها خطورة واستدامة تبعات تغير المناخ والاحتباس الحراري العالمي، وزيادة على تآكل نسبة الاستثمارات في المجال الزراعي وبيع الأراضي الزراعية بأبخس الأثمان لشركات ودول أجنبية تخصصها لغايات زراعية آخر اهتماماتها مصالح السكان المحليين، إضافة إلى هذا وذاك، يأتي عدم الاستقرار والعنف ليطبقا حلقة الكارثة حول ملايين الجوعى والفقراء في تلك المنطقة البائسة المنكوبة. والأخطر من هذه كله هو أن تجنب نشوب المجاعة كان ممكناً لو لم يكن سكان القرن الإفريقي رازحين تحت تهديد حراب الميليشيات المسلحة وإخفاقات بعض الدول غير المسؤولة، التي تنفي من الأساس حدوث الكارثة. ومن المعروف أن الصومال ترتمي في أحضان الفوضى العارمة والحرب الأهلية منذ ما لا يقل عن عشرين سنة. ومتمردو حركة "الشباب" المحسوبة على "القاعدة" يسيطرون على المناطق الأكثر تضرراً من المجاعة. وإذا تأخرت المجموعة الدولية عن التعبئة لمواجهة الكارثة فإن وراء ذلك أسباباً سياسية، لا تخطئها الملاحظة. فكون الصومال مصنفة ضمن محاضن إرهاب "القاعدة" هو ما جعل المقاربة الأمنية حيالها تسبق أي اعتبار آخر. بل إن الدعم الإنساني ظل محدوداً خشية من الالتفاف عليه وتوجيهه لصالح المتطرفين. ولذا لا تبدو للحالة المأساوية الراهنة نهاية مؤكدة. بل إن البؤس والمجاعة لا يصبان الآن سوى في مصلحة الراديكاليين. وفي الختام اعتبر الكاتب أن الاستجابة الفعالة والقابلة للاستدامة في القرن الإفريقي لا يمكن أن تتحقق إلا بالعمل لضمان التغلب على انعدام الأمن الغذائي هناك، وهو ما يستلزم قبل أي شيء آخر الذهاب أولاً لمحاربة الإرهاب في القرن الإفريقي. وفي مستهل افتتاحية أخرى بصحيفة "لومانيتيه"، حول ذات الموضوع، استشهد الكاتب "داني ستيف" بمقولة لمديرة العمليات الطارئة في منظمة الأغذية والزراعة العالمية "الفاو" قالت فيها إنه "من اللاأخلاقي أن نصل إلى لحظة نعلن فيها عن نشوب مجاعة في القرن الحادي والعشرين. والأسوأ أننا ما زلنا نرى أمامنا أطفالاً يموتون جوعاً. إن هذا أمر لا يمكن أن يستمر". ويتساءل الكاتب: كيف يمكن قبول كل تلك التعبئة العالمية المحمومة لجمع مليارات الدولارات لإنقاذ النظام المصرفي في وقت قياسي، مقابل التعبئة المتعثرة التي تقتضي أسابيع مديدة لجمع التمويلات الضرورية لإنقاذ اثني عشر مليون إنسان يتضورون اليوم جوعاً في قرن البؤس الإفريقي؟ ويمضي الكاتب منتقداً عجز وعدم فاعلية الجهد الدولي الهادف لوقف شبح المجاعة، مشيراً بأصابع الاتهام إلى أدوار مختلف الأطراف المسؤولة عن نشوب المحنة الإنسانية وتطاولها مثل الجماعات الإرهابية، وسوء السياسات الزراعية الدولية، وتغول رأس المال الاستثماري الزراعي لغايات غير غذائية، وبطء تحرك الجهات الدولية المانحة، وانكشاف ظهر وقلة إمكانيات المنظمات الإنسانية الدولية التي تركت تصارع وحدها مأساة واسعة تفوق إمكانياتها منفردة بكثير. تهديد اليمين المتطرف حذرت صحيفة لوفيغارو في افتتاحية خصصتها لهجومي النرويج من تصاعد خطر اليمين المتطرف في أوروبا الغربية، مشيرة في هذا الصدد إلى أن الجاني "أندرس بريفيك" برر فعلته الشنيعة برغبته في إطلاق "حملة صليبية" لمحاربة ما سماه "الاستعمار الإسلامي" لأوروبا، و"التعددية الثقافية" التي تتبناها الحكومات الأوروبية. وهنا تتساءل الصحيفة عما إن كان إرهاب اليمين المتطرف الأوروبي سيصبح هو التهديد الجديد لمجتمعات القارة العجوز؟ ولاشك أن أجهزة الاستخبارات والشرطة تتساءل الآن: ألم نركز أكثر مما يلزم على إرهاب الجماعات الإسلامية المتطرفة، بما شغل الجميع عن مراقبة خطر الجماعات المتطرفة الأخرى؟ ومع هذا لا يمكن أيضاً التغافل عن الواقع الجديد الذي فرضته موجات الهجرة، بما ترتب عليها من مخاوف، إضافة إلى العلاقات الصعبة بين أوروبا والإسلام، لأن ذلك كله يستتبع ردود فعل متطرفة في الاتجاه المعاكس. ومن المعروف أن أي مجتمع أوروبي ليس محصناً من عنف اليمين المتطرف، بما في ذلك النرويج طبعاً، مع أنها معروفة تقليديّاً بإعلاء قيم التسامح فوق كل اعتبار. وغير بعيد من هذا الطرح أشار الكاتب فرانسوا سيرجان في افتتاحية لصحيفة ليبراسيون إلى أن الهجوم الذي تعرضت له النرويج ليس موجهاً فقط ضد مواطنيها وإنما هو موجه في المقام الأول ضد قيمها. وقد تعمد القاتل "بريفيك" اختيار أهدافه لإظهار عدائه لقيم التسامح والتعددية والإنسانية حيث استهدف شباب الحزب العمالي الحاكم الضالعين، من وجهة نظره، في تبني تسامح الإيديولوجية الاشتراكية- الديمقراطية الإسكندنافية التي يرفضها جملة وتفصيلاً. ومع أن هذا القاتل قد تصرف، على ما يبدو، بمفرده، إلا أن الأفكار المتطرفة الظلامية التي يتبناها ليست خاصة به، حيث استمدها من تيار واسع من اليمين المتطرف قوي الحضور في النرويج. ومن المعروف أن هذا التيار المتطرف يمثله حزب "حزب التقدم"، وهو حقاً اسم على غير مسمى! وهذا الحزب يستقطب تأييد وتعاطف خمس سكان النرويج، وهو لذلك يعتبر أقوى أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا الغربية. ومع أن هذا الحزب حاول النأي بنفسه عما جرى من قتل في أوسلو وفي جزيرة "يوتويا"، إلا أن أي تتبع لخيوط المأساة سيتقطع عند أفكاره القومية المتطرفة والمعادية للمهاجرين. أما النرويج نفسها فستخرج من هذه المحنة برأس مرفوعة، بقدر تصميمها -كما أكد رئيس وزرائها- على التمسك بالقيم التي صنعت تاريخها المديد. إعداد: حسن ولد المختار