قبل ثلاثة وأربعين عاماً مضت ألقى السياسي البريطاني وأستاذ الحضارة الأوروبية القديمة إينوك باول خطاباً بليغاً ومنمقاً أمام تجمع لحزب المحافظين في مدينة برمنجهام بإنجلترا، هاجم فيه سياسة بريطانيا خلال مرحلة ما بعد الحرب، والمتمثلة في الموافقة على منح مواطني دول الكومنويلث الإقامة والجنسية البريطانيتين بسهولة. وقال في خطابه إن مثل هذه السياسة من شأنها أن تخلق لبريطانيا أقليات غير قابلة للاندماج أو منعزلة دينياً وعرقياً، أقليات ستثبت في الأخير أنها مصدر للانقسام الاجتماعي والنزاع الشعبي. باول، وهو ابن معلم ابتدائي، أصبح أستاذاً للإغريقية القديمة في سن الخامسة والعشرين؛ وفي سن الخامسة والثلاثين أصبح أصغر لواء في الجيش البريطاني زمن الحرب. وقد جعل تعليمه الكلاسيكي الخطاب الذي ألقاه في برمنجهام فصيحاً ومنمقاً، فضمّنه عبارات اقتبسها من التراث الإغريقي واللاتيني ومن ذلك قوله إن "نهر تيبر باتت تجري فيه دماء كثيرة". وقد أثار هذا الهجوم على هجرة غير الأوروبيين إلى بريطانيا هستيريا صحفية وزوبعة سياسية من النوع الذي تعد بريطانيا الوحيدة القادرة عليه؛ حيث أنهى عضوية باول في حكومة الظل المحافظة بقيادة إدوارد هيث، وألحق ضرراً بالغاً بوضعه السياسي، وجعله شخصية منبوذة وممقوتة من قبل كل الشخصيات السياسية "ذات الآراء المقبولة عموماً والمعقولة". وبعد خطاب "نهر الدماء"، أصبح باول يرمز لـ"الأشياء غير الصحيحة سياسيا" في بريطانيا بالنسبة لأصحاب القيم والمبادئ الأخلاقية الرفيعة، والعنصرية بالنسبة للأغلبية، والفاشية بالنسبة للجهلة أو المخبولين إيديولوجياً. "نهر" الدم الذي تحدث عنه باول وصل السبت الماضي إلى المياه المالحة التي تفصل جزيرة يوتويا النرويجية عن اليابسة؛ حيث أطلق شاب، يعتبر نفسه مسيحياً معاصراً وفارساً من "فرسان الهيكل الصليبيين"، الحرب "الفظيعة" التي يتوقع أن تنقذ الحضارة المسيحية الأوروبية من الماركسية والإسلام. وباستعمال متفجرات مصنوعة من الأسمدة الزراعية، وأحدث أسلحة جنود المشاة، تمكن من قتل 76 شخصاً. وهي المعركة الأولى في حرب الحضارات الجديدة وقد تم الفوز فيها بالنسبة لبريفك، أو هكذا يعتقد هذا الصليبي الاسكندنافي، كما يعتقد زملاؤه. لكن السخرية تنتهي عند هذا الحد. فإينوك باول كان مدركا للموضوع؛ فالمرء لا يمكنه أن يدمج شعباً مختلفاً ثقافياً عن الشعب المستضيف، ويبذل قليلا أو كثيراً من الجهد لاتخاذ قرارات حكيمة بشأن الأشخاص الذين يأتون، أو تعليمهم ثقافة الأغلبية، والعمل على إدماجهم في المجتمع الذي انضموا إليه عبر مثل هذه الوسائل، بدون استدعاء كارثة. الأميركيون يتعاملون دائماً مع الهجرة باعتبارها شيئاً مسلماً به، نظراً لأننا جميعاً مهاجرون أتينا من أجل أسباب عاجلة مدركين أننا يجب أن نغيّر حياتنا وعاداتنا وثقافاتنا للحصول على المراد. فالهجرة الأميركية عادة ما ينظر إليها من منظور الشاعرة إيما لازاروس باعتبارها "رفضاً" لبلدان أجنبية و"توقا من قبل جماهير غفيرة إلى تنفس الحرية". وقد يكون ذلك صحيحاً في أواخر القرن التاسع عشر باعتباره من نتائج المذابح التي كانت تواجهها بعض الأقليات والقمع في أوروبا الشرقية؛ لكنه حتى ذلك التاريخ كانت الهجرة في الغالب مسألة تطور كولونيالي، واستثمار تجاري، وبحث عن أراضٍ جديدة. لقد كانت أميركا فرصة، وليست ملجأ. وكان أسلافي مزارعين أحراراً، أو تجارا مستثمرين، أو منشقين دينيين، أو رومانسيين مغامرين. لقد كانت السياسة الأوروبية الحديثة بخصوص الهجرة تقوم في البداية على بحث عن عمالة صناعية وزراعية معظمها من "العمال الضيوف" الذكور الذين سيعودون إلى بلدانهم الأصلية عندما لن تبق ثمة حاجة إليهم. وكانوا في معظم البلدان الأوروبية ضحايا ممارسات غير رسمية مثل العزل، حيث كانوا يُنحون سكنا سيئا، وتعليما غير كاف، ويتعرضون للتميز في العمل. وكان البريطانيون يتصرفون تجاههم كأسياد كولونياليين، يتعاملون مع "وجهاء" القبائل ويتجاهلون البقية. وكان الألمان يعتقدون أنهم سيعودون جميعا إلى بلدانهم وعائلاتهم في تركيا، في حين كان الفرنسيون والإيطاليون هم الوحيدون الذين حاولوا إدماجهم، حيث فرضوا عليهم تعلم اللغة، والتصرف كمواطنين، وتحرير نسائهم. وكان الليبراليون والمدافعون عن حقوق النساء الأميركيون يشعرون بالغضب لأن الإحصاء الفرنسي كان يمنع الإشارة إلى العرق أو الدين أو الجنسية الأصلية، كما قامت الحكومة بحظر ارتداء الحجاب في المدارس والنقاب في الأماكن العامة. لكن، ألم يكن الفرنسيون يؤمنون بالحرية؟ الواقع أن السياسة الأوروبية تجاه الهجرة تميزت أيضاً بالمثالية التي سادت بريطانيا وأوروبا الغربية بشكل عام خلال مرحلة ما بعد الحرب، بعد التجارب الفظيعة للعنصرية التي أفضت إلى الإبادة الجماعية خلال الحرب العالمية الثانية، ونبذ الكولونيالية والإمبريالية. والواقع أنه لا يوجد ما يمكن القيام به إزاء المهاجرين في أوروبا. فقد وصلوا، واستوطنوا، وأنجبوا، وسيبقون، وينبغي إدماجهم كمواطنين، لا أن يعاملوا معاملة تمييزية مثلما هو الحال في أحيان كثيرة. ويمكن القول إن الأحداث التي عرفتها النرويج تعد من ناحية نتيجة أفكار غربية - مازالت موجودة - حول تنافس الحضارات وصدامها: هل ستصبح الصين الأولى عالميا أم ستظل أميركا؟ ولماذا تشكل "الصحوة العربية" تهديداً؟ والواقع أنها قد تكون تهديداً لإسرائيل، لكن ذلك هو ما اختارته إسرائيل. ولماذا يعبر عن العلاقات بين المجتمعات العظيمة، والمهاجرين والمجتمعات الغربية المستضيفة، بلغة الحرب والهيمنة؟ ولماذا يخاف الأميركيون من المسلمين إلى هذا الحد؟ الواقع أن إينوك باول لم يكن مجنونا. فقد سالت دماء؛ ولا شك أنها ستسيل مرة أخرى إلا إذا استطاعت الحكومات الغربية التعاطي مع الأخطار الحالية! -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفس"