كما يكثر الحديث عن التعارض بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية كذلك يكثر الحديث عن التناقض بين الدولة الإسلامية والدولة الوطنية. وكلها خطابات تعبر عن أوضاع نفسية واجتماعية وسياسية لتاريخ العرب الحديث وليست تحليلًا موضوعيّاً لواقع تاريخي. هي تعبير عن أمل منشود عند بعض المضطهدين وليس عن واقع سياسي فعلي. وربما هي رد فعل على ما يحدث في الدولة الحديثة من مآسٍ أقلها الاحتلال الأجنبي لفلسطين والعراق، والهزائم المتكررة منذ النكبة في فلسطين في 1948، والنكسة باحتلال سيناء وكل فلسطين والجولان السورية وجنوب لبنان في 1967، ثم الاعتراف بالعدو والصلح معه وعقد معاهدة السلام بين مصر وبينه. وإسرائيل ما زالت تحتل أراضي ثلاث دول عربية، وسيناء منزوعة السلاح. الدولة "الإسلامية" عند أنصارها بديل عن الدولة الوطنية حتى لو أدت إلى انقسامها وفصل جنوبها عن شمالها كما حدث في السودان وكما يحدث الآن في نيجيريا في حركة "بوكو حرام" التي تحارب الدولة الوطنية في الشمال بدعوى فصله عن الجنوب من أجل إقامة الدولة "الإسلامية"، وتطبيق الشريعة فيها. وما زالت الحرب الأهلية دائرة في الصومال بين عديد من الفصائل، كلها "إسلامية" من أجل تطبيق الشريعة. وحصدت الحرب الأهلية في الجزائر من قبل الألوف من الأرواح بين الحركة الإسلامية والدولة، وضاعت حرب المجاهدين ضد الاستعمار الفرنسي على أرض المليون شهيد. ويزيد دعاوى ذلك السجال نفسيّاً كثرة الحديث في المساجد وفي قنوات الفضاء الإسلامية والإعلام الإسلامي عن نموذج الصحابة والسلف بحيث أصبح البعض يعيشون خارج الزمان. يحنون بذاكرتهم إلى الماضي. يتمنون أن يعودوا إليه. فتنشأ الحركات السلفية التي ترفض الواقع برمته. وتنزل تحت الأرض انتظاراً لقلب نظام الدولة الوطنية، وإحلال الدول "الإسلامية" محلها. تحول التاريخ إلى مثال، وصراع بين الحق والباطل، بين الماضي والحاضر! ونسيت الذاكرة الخلافات بين الصحابة على السياسة، الإمارة والخلافة، ووقائع الجمل وصفين، وأن ثلاثة منهم ماتوا مقتولين، واستقلال الأمصار عن دولة الخلافة في بغداد أو إسطنبول، وأن بعض الدولة الإسلامية التي يقال إنها إسلامية ليست مثالاً يُحتذى. وتلقى معارضة شديدة من فريق من الناس. ثم هل إقامة الدولة الإسلامية تتم بالسلاح وإزهاق الأرواح وسفك الدماء، أم بالحوار الوطني؟ هل الضحية المسلمون أنفسهم، من نساء وأطفال وشيوخ، وهم الذين ترعاهم الدولة الإسلامية؟ هل تفجير المباني بالعربات المفخخة وسقوط الآمنين هو الطريق لإقامة الدولة الإسلامية؟ هل تأتي الدولة الإسلامية على أكتاف الأقلية حتى ولو كانت على حق ضد الأغلبية حتى لو كانت على باطل؟ لقد حاور الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهو في مكة المناوئين له حتى يكثر عدد المؤمنين بالإسلام تدريجيّاً. وحاول إقناعهم بالحسنى (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). ولئن يهدي الله إليه رجلاً واحداً خير من الدنيا وما فيها. وبدأت الدولة الإسلامية الحقة بالهجرة من مكة إلى المدينة، هجرة الأقلية إلى الأغلبية، ومناصرة الأغلبية للأقلية سلماً. وتمت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، والعيش المشترك وليس القتل المتبادل. وهل تعني الدولة الإسلامية فقط تطبيق الشريعة أي الحدود، أي العقاب، أم إعطاء الحقوق؟ تعطي الشريعة الإسلامية الخبز لكل جائع، والحرية لكل مضطهد، والعدل لكل مظلوم، والعمل لكل عاطل، والعلم لكل أمي، والسكن لكل شريد، والعلاج لكل مريض. إعطاء الحقوق مثل أداء الواجبات. ولا واجبات بلا حقوق كما أنه لا حقوق بلا واجبات. وهل تعني الشريعة فقط الزجر والمنع والردع، الجلد وقطع اليد والرجم والصلب، أم أنها أيضاً سلوك فطري، والتمتع بما أباحه الله؟ فكل مولود يولد على الفطرة، وقادر على معرفة الخير والشر بنفسه "استفت قلبك وإن أفتوك". وبها قدر كبير من حرية الاختيار في المندوب والمكروه. في المندوب الفعل أفضل من عدم الفعل. وفي المكروه عدم الفعل أفضل من الفعل. والخيار بين الفعل وعدم الفعل في الحالتين متروك لحرية الإنسان. أما الدولة الوطنية فقد ارتبطت تاريخيّاً بالقضاء على الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وبمعاهدة "سايكس- بيكو"، وبتأييد بريطانيا وبخديعتها للعرب، الاحتلال بدل الاستقلال. كما ارتبطت الدولة القومية بالمسيحيين العرب الذين رأوا في القومية العربية بديلاً عن الخلافة العثمانية. وبعد حركات التحرر الوطني، تحولت الدولة الوطنية إلى دولة تقهر المواطنين، وتستبد بهم لصالح الزعيم الوطني، عائلته أو عشيرته أو طائفته أو طبقته، مدنية أو عسكرية. ولما أرادت بعض القوى معارضة الظلم تم اضطهادها والتنكيل بها وإعلانها غير شرعية وخارجة على الدستور والقانون. تمثل خوارج العصر. وقد تستعملها نظم الحكم لتصفية خصومها من اليساريين. فالدولة الوطنية مرة معها، ومرة ضدها طبقاً لمصلحتها والحفاظ على النظام. إن نموذج الدول الإسلامية أو الدولة الوطنية هو ميثاق المدينة. تجتمع فيها كل الطوائف والأجناس والأعراق في نظام يقوم على المساواة في الحقوق والواجبات. وهو استئناف لحلف الفضول الذي عُقد قبل الإسلام، والذي قام على مناصرة المظلوم وأخذ حقه من الظالم. ولو كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، حاضراً لكان أحد الموقعين عليه. فليس كل ما في الجاهلية شراً، "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا". وهو نموذج الدولة الوطنية الحديثة التي تقوم على مبدأ المواطنة والتعددية السياسية التي يضعها الخطاب الإعلامي على نقيض الدولة الإسلامية وهي تطوير لها. وهي ليست دولة علمانية ضد الدين بل دولة تتمثل القيم الإسلامية في عصر حديث. فالإسلام مضمون وليس شكلاً، مصالح عامة وليس مجرد عقائد، معاملات وليس مجرد عبادات. وهي دولة مفتوحة لا تحدها حدود سياسية. هي بؤرة الوطن العربي بفضل اللغة، فليست العروبة بأب أو أم إنما العروبة هي اللسان. فكل من تكلم العربية فهو عربي. وهي بؤرة العالم الإسلامي من خلال الثقافة. ويمكن أن تكون مصر نموذجاً للدولة الوطنية ذات الحدود المفتوحة جغرافيّاً ولغويّاً وثقافيّاً. فهي مفتوحة جغرافيّاً على المغرب العربي. ومنها انطلق الفتح الإسلامي غرباً. وهي مفتوحة على المشرق العربي عبر سيناء إلى شبه الجزيرة العربية. ومنها أتى الفتح الإسلامي الأول. وهي مفتوحة على الشمال، الشام. ومعها توحدت مصر عبر التاريخ. وهي مفتوحة على الجنوب إلى السودان وحوض وادي النيل. ومنها انتشر الإسلام والطرق الصوفية. فمصر هي الدولة الوطنية القاعدة التي توحد ما حولها، الوطن العربي، وما حوله، العالم الإسلامي. حضورها المعنوي، الثقافي والسياسي، في محيطها يعترف به الجميع. وعزلتها خسارة على الكل، وتقطيع للأطراف بعد عزل القلب وإخراجه من الجسد. فالدولة الوطنية هي دولة الوحدة التي هي انعكاس للتوحيد. ومنها يتكون الثلاثي الأول مصر وتركيا وإيران في تجمع سكاني واقتصادي كبير بدلًا من غواية الغرب لمصر وتركيا وانضمام تركيا لحلف شمال الأطلسي وتردد الغرب في قبولها عضواً في الوحدة الأوروبية. يتلو ذلك تجمع أوسع للدول الثماني التي تمتد إلى أفريقيا، نيجيريا، وآسيا، ماليزيا وإندونيسيا، ثم الدول الأربع والعشرون التي تكون الاتحاد الأفريقي الآسيوي الذي يجد له صدى في أميركا اللاتينية في البرازيل وغيرها لتكوّن من جديد منظومة دول العالم الثالث ليجعل العالم متعدد الأقطاب وليس ذا قطب واحد.