عقب التحول الذي طرأ على موقف الولايات المتحدة من "طالبان"، حيث باتت تعترف فعلياً بأنه من الممكن التعامل مع الحركة بشكل منفصل عن "القاعدة"، ارتفعت الآمال في انسحاب القوات الغربية من أفغانستان بحلول 2004. لكن على الرغم من أن "طالبان" بدأت تتفاوض مع حكومة كرزاي، إلا أنها مازالت تعتبر أن المشكلة الأساسية هي بينها والولايات المتحدة، وتنظر إلى الحكومة الأفغانية باعتبارها مشكلة ثانوية. ولذلك، فإنها تشدد على ضرورة إشراك المجتمع الدولي من أجل التوصل إلى تسوية سياسية بضمانات دولية. وقد عقد أول لقاء بين زعماء "طالبان" ومسؤولين من الولايات المتحدة في مدينة ميونخ وترأسه دبلوماسي ألماني رفيع المستوى، في حين جرت الجولة الثانية من المحادثات في العاصمة القطرية الدوحة. ويذكر هنا أن الألمان كانوا دائماً محط إعجاب الأفغان نظراً لحيادهم في النزاعات الأفغانية. وقد حرص الألمان على أن يكون المفاوضون ممثلين لمجلس شورى "طالبان"، الذي يترأسه الملا محمد عمر. ومن جانبهم، كانت "طالبان" ترغب في حضور بلد مسلم إلى طاولة المحادثات واعتبرت قطر بلداً محايداً لأنها لم يسبق لها أن تدخلت في أفغانستان، مثلما لم يسبق لها أن قدمت الدعم لأي من بلدان المنطقة التي انحازت إلى صف معين في نزاعات أفغانستان في الماضي مثل باكستان أو السعودية أو الهند أو تركيا أو إيران. وكان يتم إطلاع الرئيس الأفغاني حامد كرزاي على فحوى المفاوضات بعد كل جولة، وكان يدعم رغبة "طالبان" في إجراء محادثات منفصلة مع الأميركيين، حتى في وقت كانت تواصل فيه حكومته محادثاتها مع "طالبان". وعلى الرغم من أن الزعماء الباكستانيين أيضاً كان يتم إطلاعهم على التقدم الذي يتحقق، فإنهم عبروا عن تحفظات حقيقية بشأن "المقاربة الانتقائية" للولايات المتحدة في المحادثات مع "طالبان"، ويرغبون في أن تشمل المفاوضات، علاوة على المجموعة التي يقودها الملا عمر، مجموعات أخرى مثل شبكة حقاني، وهي الفصيل السلفي من "طالبان"، الذي يسيطر على إقليمي كونار ونوريستان و"حزب إسلامي" بقيادة غلب الدين حكمتيار. وفي هذه الأثناء، يعمل الأميركيون على إبقاء باكستان بعيدة عن هذه المحادثات، ولاسيما بعد تدهور العلاقات بين الجانبين عقب الغارة الأميركية على مدينة "أبوت آباد" من أجل قتل بن لادن. ويمارسون في الوقت نفسه ضغطاً على الجيش الباكستاني حتى يزيد ويكثف عملياته ضد المتمردين الأفغان المرتبطين بالقاعدة في بلوشستان ووزيرستان. وحتى إذا افترضنا أن البلدين سيتمكنان من إصلاح علاقاتهما، فهناك مشكلة أخرى؛ ذلك أن باكستان لطالما اشتكت من أن طرد المتمردين من المناطق القبلية الباكستانية سيعني تقاطرهم على شرق أفغانستان، وبالتالي ترك حدودهم عرضة لهجمات مضادة من قبل لاعبين أكثر عدوانية وشراسة مثل "شبكة حقاني" إلى جانب عناصر من "القاعدة"، اللهم إلا إذا عزز الجيش الأميركي وجوده هناك. والحال أن الولايات المتحدة قامت منذ بعض الوقت بتقليص عدد قواتها من شرق أفغانستان لتركز على الجنوب. كما أن قواتها تقوم بمقاتلة "طالبان" نفسها التي تعتبر أن لديها دوراً في تسوية سياسية. إلى ذلك، تبحث "طالبان" لنفسها عن حصة من السلطة، وتطمح إلى إعادة الاعتبار لزعيمها الملا عمر، وإنْ لم يقم بإدارة الحكومة بشكل مباشر. وقد نجحت مؤخراً في فتح صفوفها في وجه من هم من غير البشتون في شمال أفغانستان، حيث قامت بضم مجموعات إثنية مثل الأوزبك والطاجيك الذين كانوا معادين للحركة عندما كانت تحكم أفغانستان. ويبدو أنه باتت لدى "طالبان" اليوم استراتيجية واضحة تهدف إلى التركيز على الشمال من أجل تغطية مناطق غير البشتون، وتعزيز الادعاء بأنها الممثل الشرعي لأفغانستان، وليس البشتون فقط. وهو ما تفعله بفعالية مذهلة. والواقع أن حتى حكومة كرزاي تسعى حالياً إلى إجراء محادثات مع "طالبان" على مستويات مختلفة. وفي هذا السياق، أنشأ الرئيس الأفغاني "المجلس الأعلى للسلام" في محاولة لمد جسور التواصل مع "طالبان" التي عرض عليها الاعتراف بها كقوة سياسية في المستقبل. ويبدو أن المجلس، الذي يقوده الرئيس السابق برهان الدين رباني، قد أحرز بعض التقدم. وخلال زيارة قام بها كرزاي إلى إسلام آباد مؤخراً، أنشأ البلدان لجنة ثانية أنيطت بها مهمة السعي لتحقيق السلام في أفغانستان. وتعد هذه اللجنة، التي تضم في عضويتها قادة عسكريين واستخباراتيين، أول جهد حقيقي يشير إلى "اتفاق مواز" لمواصلة المفاوضات مع "طالبان" من دون انخراط أميركي. بيد أن السلام في أفغانستان له تداعيات إقليمية عميقة، ولاسيما بالنسبة لباكستان غير المستقرة والحريصة على استمرار نفوذها في ذلك البلد. ذلك أنها قلقة بشأن الطريقة التي سيؤثر بها أي دور "متفاوض حوله" لمجموعات من البشتون تابعة لـ"طالبان" أفغانستان على سكانها البشتون بمحاذاة الحدود الأفغانية وفي مدن باكستانية كبيرة مثل كراتشي. وإضافة إلى ذلك، فإن قلقها بخصوص "تطويقها" - وجود الهند شرقاً والعلاقات الوثيقة بين الهند وأفغانستان غرباً - كبير ولا بد من أخذه بعين الاعتبار أيضاً. والواقع أنه لطالما أحبطت هذه المصالح الباكستانية الجهودَ الأميركية الرامية لتحقيق نصر عسكري واضح في أفغانستان. ويمكن القول إن نجاح باكستان في الدفع بمصالحها هو الذي جلب أميركا إلى هذه المرحلة من "التفاوض" مع "طالبان". إلا أنه إذا استبعدت هذه المحادثات باكستان، فإنها لن تُحدث نهاية لهذه الحرب الأهلية. أما في ما يتعلق بالهند، فقد ضخت حوالي مليار دولار في تدريب الأفغان، ولكن تأثيرها يقتصر على الدبلوماسية الناعمة فقط. وقد جاءت زيارة الرئيس السابق برهان الدين رباني إلى الهند الأسبوع الماضي تلبية لطلب من أميركا التي ترغب في أن تظل الهند منخرطة في أفغانستان. ذلك أن أميركا لا ترغب في أن تحصل إيران على موطئ قدم لها في أفغانستان وترغب في أن يظل لاعبون إقليميون آخرون منخرطين مع هذا البلد. والجدير بالذكر هنا أن الهند قامت مؤخراً بتغيير موقفها الداعم لاتفاق سلام مع "طالبان" في حال قامت هذه الأخيرة بقطع علاقاتها مع "القاعدة". وقد كان حرص الهند على الانخراط في أفغانستان واضحاً؛ وفي هذا الإطار يمكن القول إنها ليست صدفة كون رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينج أول زعيم يزور أفغانستان بعد مقتل بن لادن. غير أن انخراط الهند في أفغانستان يراقب وينظر إليه عن كثب من قبل باكستان التي لا ترغب في أن يكون لنيودلهي أي تأثير سياسي في ذلك البلد، وترغب في أن تسد الفراغ الذي ستتركه الولايات المتحدة وبلدان غربية أخرى وراءها هناك.