سيحل شهر رمضان المبارك يوم الأحد أو الاثنين "تقريباً". من يدري فقد يأتي اليوم الذي نستطيع أن نعرف فيه حسابيّاً متى يحل رمضان المبارك العام 2090؟ يحل الشهر الكريم، والساحة العربية تشهد مآسي إنسانية على أصعدة متعددة. فدول الديكتاتوريات العربية تعيش حالة من الغليان الثوري الدموي، آلاف الضحايا ماتوا، وآلاف يتساقطون يوميّاً بين قتيل وجريح ومعتقل وجائع قتله العوز والجوع. هذا هو المشهد الرمضاني بعمومه بلا رتوش أو مواربة. كم كنت أرغب في تجميل المشهد أو تحسين صورته. صحيح أن أماكن أخرى تنعم بدعة ورغد العيش، ولكن مأساة المشهد ودمويته وقبحه، غطت على كل جميل في هذا الشهر الجميل. يرفض الطغاة التخلي عن كراسيهم، ويسحقون عظام شعوبهم من أجل بقائهم، والمبررات جاهزة: مؤامرات وعصابات ومندسون وعملاء وجراثيم ومهلوسون وووو...إلخ القائمة من اتهامات الشعوب: متى كان الشعب متهماً؟ رمضان -شهر الرحمة والخير والبركة لدى المسلمين جميعاً، يتزامن مع اقتتال منظم لشعوب، تقتلها طغاتها برصاص اشترته بأموالها ومن قوتها ومصادر رزقها. مفارقة عجيبة: شعوب تقتل بمصدر رزقها، وإصرار من قبل الطغاة على أن القتل من أجل الحياة! وعلى أن البطش ثمن مفروض من أجل رخاء هذه الشعوب واستقرارها!! في جهة القرن الأفريقي مجاعة بدأت بالفتك بالآلاف من البشر بالصومال، أطفال يتضورون جوعاً، ونساء ثكلى يندبن حظهن العاثر، وشيوخ يدفعهم الجوع والفاقة دفعاً نحو الهرب والبحث عما يسد الرمق. رضّع تتقطع بهم السبل، فتترك الأم الوهن منهم، ومن لم يستطع إكمال الرحلة سيراً على الأقدام، على أمل أن تصل بمن بقي منهم حيّاً، ومن بقي فيه شيء من القدرة على مواصلة الرحلة نحو المجهول هرباً من الجوع. بحار من البشر تسير على غير هدى. تتابع الصور عبر التلفزيون وتنظر نحو الثياب الرثة والملابس السملة، وتحرقك التساؤلات والتعاطف مع بني جلدتك من البشر: أي مصير دفع هؤلاء البائسين نحو السير بدون اتجاه؟ وأي حظ عاثر قاد هذه الأمواج البشرية نحو الهرب من الجوع؟ كيف يهرب الإنسان من الجوع؟ من لم يشعر بالجوع يوماً، لن يعرف هذا الشعور. ومن لم يعش خطوب الحروب لن يفهم ما دفع هؤلاء نحو صحراء بلا نهايات. وقرب المشهد، وفي مقديشو نفسها: ملثمون وملتحون يحملون البنادق والرشاشات والشعارات، ويرددون أنهم "شباب الإسلام"، يقتتلون ويتقاتلون لأمر لا يعرفه سوى تجار الحروب والبنادق المستأجرة. أنين طفل يموت جوعاً، يختلط بأزيز رصاص طائش في أيدي أطفال تطلق الرصاص لتعيش. هذا من ذاك، وهذه مرتبطة بتلك. رصاصة تقتل بريئاً ليعيش طفل آخر، ربما ليوم أو يومين أو أكثر أو أقل قليلاً. ثمنها يشتري وجبة طفل ليوم كامل، ثمن الرصاصة وجبة، لكن الرصاص تحالف مع الجوع والتخلف وانحباس القطر، فاشتركوا جميعاً في جريمة القتل. الجوع يعلن براءته من الجريمة، والقطر يتبرأ من المشاركة فيها. إنه التخلف والجهل إذا اجتمعا وتحالفا مع الرصاص. هكذا قال من يحاول أن ينأى بنفسه عن الجريمة. تحارب تساؤلاً داخل ذاتك: هل أنا شريك في جريمة الجوع من قريب أو بعيد؟ تنفض عنك غبار الشؤم، تضيء الأمل أمام ناظريك، تنفض كوامن ذاتك نأياً بها عن الجريمة، تنادي بتقديم العون: رمضان كريم، والبشر تموت لبخل آخرين حبسوا عنهم رحيق الحياة. تستدعي منظر المسلحين بمقديشو، وبجانبهم من الجهة الأخرى للمدينة أطفال تنازع وتلفظ أنفاسها جوعاً. الجوع، الجدل حول بداية رمضان، الرصاص والقهر والأمل، هذه مرتبطة بتلك!! "مبارك عليكم الشهر".