يوميات الثورة التونسية... رواية مضادة! كيف يمكن تأليف كتاب عن حدث تاريخي ما زال قيد التشكل؟ وكيف يمكن إعادة التأريخ، بأثر رجعي، ليوميات ثورة، تقدم لها أكثر من نقطة بداية، وإن كانت ما تزال دون أفق أو خط نهاية معروف؟ لعل مثل هذين السؤالين هو أول ما يثور في ذهن قارئ كتاب "تونس.. ثورة عربية" للصحفي الفرنسي "بيير بيشو" المتخصص في الشؤون المغاربية والعربية، الذي عمل مراسلاً في تونس خلال السنوات الأخيرة من عهد بن علي، على نحو جعله، بهذه الطريقة أو تلك، "شاهد عيان" على مقدمات الثورة، ويومياتها، وبكيفية ربما تجعله أيضاً مؤهلاً بمعنى ما، لاستشراف أفقها الآتي، وقراءة عنوان مرحلتها المقبلة. والحال أن زخم وتسارع وتيرة الأحداث في الثورة التونسية التي تكشفت عن سقوط نظام بن علي قد طرحا بالفعل كثيراً من الأسئلة السياسية والفلسفية التاريخية حول الكيفية التي تتشكل وتكتمل بها الثورات عموماً، والآلية الخفية التي تتفاعل بها عناصر وكيمياء أية أحداث تحول سياسي كبرى. ولعل أول ما يمكن قوله، في هذا المقام، أنه لم يكن من السهل حتى أواخر العام الماضي تصور انهيار ذلك النظام التونسي الشمولي ذي القبضة السياسية والأمنية الكاسحة، وتهاوي قلاعه السياسية والحزبية، بكل تلك السهولة أمام حركة احتجاج سلمي، لم تدم أكثر من أسابيع معدودة طيلة شهري ديسمبر ويناير الماضيين، على خلفية غضب شعبي عارم بدأ في مناطق الظل المنسية بسيدي بوزيد وانتهى تحت هالات الأضواء وأمام الكاميرات والعدسات في قصر قرطاج. وقد قيل إن شرارة انطلاق كل ذلك كانت حادثة إحراق محمد البوعزيزي لنفسه. ولكن هل يكفي حقاً ذلك الحدث الفردي وحده، لتفسير ثورة بكل هذا الحجم والزخم؟ لابد للاقتناع بذلك أن يتأسس أولاً -ضمناً- على رؤية قاصرة للتاريخ، تقوم على القناعة بدور الفرد العادي في صناعته، وهي قناعة تعبر عنها مقولة "أنف كليوباترا" الشهيرة التي مؤداها أن أنف تلك الملكة المصرية لو كان أقصر أو أطول قليلاً، أو أقل جمالاً عموماً، لكان التاريخ الإنساني، أو على الأقل في حوض البحر الأبيض المتوسط، قد أخذ منحى مختلفاً تماماً. فهل يصدق مثل هذا التفسير الفردي، مرة أخرى، على الحالة التونسية؟ أو بتعبير آخر، لنفترض أن محمد البوعزيزي لم يحرق نفسه، فهل كانت ثورة الياسمين التونسية ستقع أصلاً؟ نعم كانت ستقع حتماً، وهذا هو مؤدى كتاب "بيير بيشو"، لأن كل الأسباب الاجتماعية والسياسية المؤدية إليها كانت قد احتشدت تباعاً في مدن تونس خلال سنوات بن علي الأخيرة، ولذا حاول الكاتب الإمساك بمختلف المقدمات واللحظات الفارقة التي مهدت للثورة، وهو ما استدعى منه تجميع حزمة مقالات وتقارير وريبورتاجات يؤرخ كل واحد منها للحظة تونسية خاصة، كان قد نشرها خلال السنوات الأخيرة من الاحتقان التونسي، إضافة إلى تغطياته الحية لأسابيع الثورة نفسها، وقد وضع الجميع بين دفتي هذا الكتاب التجميعي الصحفي الذي يصدق عليه من هذه الزاوية قول الكاتب الفرنسي الشهير ألبير كامو: "إن الصحفي هو مؤرخ اللحظة". ولعل مما يلفت النظر هنا حقاً أن الكاتب تعمد أيضاً أن يستدرج لكتابه ثلاث مقدمات رفيعة، وبأقلام من يهمهم الأمر تماماً: مقدمة بقلم "أدوي بلينل" الصحفي الفرنسي اليساري الشهير ومؤسس موقع "ميديابار" المثير للجدل، الذي كان المؤلف مراسلاً له في تونس، إضافة إلى الكتابة في عدة صحف فرنسية كبرى أخرى. ومقدمة ثانية من راضية النصراوي، الناشطة الحقوقية التونسية المعارضة والضيفة الدائمة السابقة على مراكز الاعتقال. وأخيراً مقدمة ثالثة من المؤرخ الأكاديمي التونسي البارز صابر منصوري. وإضافة إلى كل هذه التعددية في المقدمات، والقراءات، تلمس الكاتب أيضاً في تتبعه للأحداث مقدمات الثورة التونسية العديدة السابقة على الحالة البوعزيزية، حيث سجل بداية الاحتقان الحقيقية التي مثلتها "ثورة الحوض المنجمي" في ولاية قفصة بأقصى الجنوب التونسي التي انطلقت احتجاجاتها العنيفة يوم 5 يناير 2008، مع ما ترتب عليها من قمع وحلول أمنية راكمت حالة الاحتقان والاستقطاب، وفيما بعد كرست حالة الطلاق والانفصال، بين السلطة والجنوب، وتاليّاً بين السلطة والشارع، بصفة عامة، على نحو أدت تفاعلاته في النهاية، وكما بتنا نعرف جميعاً، إلى إنضاج مقولات Dégage، وارحل، والشعب يريد إسقاط النظام، ولقد هرمنا في انتظار هذه اللحظة التاريخية، وغيرها! فهناك في قفصة بدأت بالفعل أحداث الثورة التونسية، من وجهة نظر الكاتب، في وقت سابق على حادثة البوعزيزي بثلاث سنوات. ومن هناك أيضاً ينبغي إعادة كتابة يوميات ما جرى ويجري الآن في تونس. أما الأبطال الحقيقيون في كل ذلك، الذين يستدعيهم الكتاب، فلا يختلفون عن البوعزيزي في شيء، فكلهم تونسيون عاديون، مثل ذلك الميكانيكي القفصاوي فاقد الأمل، والعاطل عن العمل، الذي كان يمضي سحابة أيامه الكاسدة بالدردشة المملة على الإنترنت، حيث نصادف روايته ورؤيته الخاصة للثورة في آخر الكتاب. وهنالك أيضاً آخرون كثيرون أمثاله من التونسيين العاديين الذين يستدعيهم المؤلف بين دفتي كتابه باعتبارهم شهوداً غير عاديين. ولا يُغفل "بيير بيشو" كذلك التوقف عندما قيل، ويقال من تنظير ثوري رومانسي، عن الدور الحاسم الذي لعبته مواقع التواصل الاجتماعي في إنجاح الثورة التونسية، وإن كان الاتجاه العام للرواية المضادة التي يقدمها ليوميات الثورة تعطي البعدين الاقتصادي والسياسي الحسي الواقعي -لا الافتراضي- نصيب الأسد ضمن أسباب الثورة، بما لا يقاس إلى أية عوامل أخرى. كما يخص الكاتب أيضاً مواقف الحكومات الفرنسية المتعاقبة تجاه الحالة التونسية بقدر غير قليل من النقد، إلى حد جعله يصف سياسة بلاده تجاه تونس بأنها ظلت تستبطن كافة أعراض الشيزوفرينيا، والتخبط والارتباك. ولعل آخر ما يمكن قوله عن كتاب "بيير بيشو" هو أن فيه ميزة إيجابية نادرة في الكتب ذات الطابع السياسي أو الصحفي، حيث إنه لا يتعب نفسه بادعاء الحياد ولا الموضوعية الصحفية فيما يروي، إذ يكاد يكون له موقف شخصي لا تخطئه الملاحظة تجاه كل ما جرى. كما لا يغفل أيضاً محاولة تسجيل واستشراف التحديات الراهنة والمنتظرة خلال مرحلة العبور التونسي الصعب الراهنة نحو التعددية والإصلاح والديمقراطية، ولا شك أن هذا هو تحدي اللحظة وعنوان المرحلة اليوم في تونس. حسن ولد المختار الكتاب: تونس.. ثورة عربية المؤلف: بيير بيشو الناشر: منشورات جلاد تاريخ النشر: 2011