بين الرأسمالية والشمولية تناقضات، ترتفع بعض القضايا من خلالها وقد لا تقع على المجتمع، فمنذ أن تقابل هذان النهجان في إدارة شؤون المجتمعات التي تفرقت سياسيّاً واقتصاديّاً على هذا الأساس، فإن السجال متواصل، ومع انتقال بعض المجتمعات التي كانت غارقة في أتون الأنظمة الشمولية وخاصة في أوروبا الشرقية التي كفّرت عن ممارساتها السابقة بالدخول إلى الرأسمالية بكل ما تحمل من نواقص، كانت محل انتقادات صارخة من قبل تلك الدول. يبدو الآن أن الرأسمالية لها المقدرة في احتواء الشمولية وتحويرها إلى نظام قادر على الاستمرار بدل الإصابة بمرض الانهيار الذي أصاب الاتحاد السوفييتي وبعثر دوله، بل ودفع بها إلى قاع الرأسمالية وهي اليوم تعيش أزهى فترات حياتها السياسية في ظل دخول البعض إلى نادي الاتحاد الأوروبي بعد استكمال الشروط والأخريات في طريقها إلى ذلك الحضن الدافئ، بعد أن كانت تعاني من حرائق الشمولية التي لم تترك للإنسان إرادة ذاتية ولا كياناً معتبراً. إن شهادة أحد اليساريين الشموليين، كافية لدحض كل ما يمكن أن يقال عن إيجابيات النظام الشمولي الذي يحصي على المقتنع به أنفاسه. لقد رحل مؤخراً عن الساحة الأدبية الإسبانية أحد مبدعيها وهو "خورخي سمبرون"، الذي يعد من أنصار اليسار في عديد من القضايا إلا أنه كان مناهضاً لستالين ولخص ذلك الموقف في مرحلة لاحقة من حياته عندما قال: "إن غابة الرأسمالية أكثر أمناً من حديقة حيوان النظام الشمولي". لأن الفرق بين الكائنين في الغابة والحديقة كالفرق بين الحرية والديكتاتورية، فالأولى تعد واحة للأمن والأمان النفسي أولاً فضلاً عن المجتمعي، والأخرى تظاهر ودعاية بوفرة الأمن ضمن هذه الحديقة المسيجة والمراقبة ليس بالدوائر الإلكترونية، بل بالآلاف من العيون التي تساهم في تفقيع عيون الخارجين أو الناوين على الخروج من تلك الحديقة إلي فضاء غابة الرأسمالية الأشمل بعيداً عن ضيق الشمولية التي تضيق بأفرادها فضلاً عن محاولة الهروب منها إلى غيرها من الأنظمة الرحبة دون أي رهبة منها. إن المتغيرات التي تضج من حولنا في العالم العربي والعوالم الأخري ترنو للحصول على نظم تيسر للأفراد مساحة أكبر وأكثر أمناً وأماناً وذلك حتى لو كانت الوسيلة هي الخروج عنوة من حديقة الشمولية التي طوقت أعناق ملايين البشر لعقود طويلة إلى البحث عن المنقذ، ففي الغرب كانت الرأسمالية هي البديل الأيسر أما في الشرق فلا نعلم حتى الساعة النظام الذي سيبقى منهجاً للحكم أكثر أمناً دون وصفها بالغابة، حتى لا ينتقل الناس من الحديقة إلى مرحلة أخرى قوانين الغاب فيها أرحم وخاصة عندما تهدر أرواح البشر بلا مبرر ولا داع. والتعامل مع الرأسمالية الغربية من قبل الأنظمة الشمولية على أساس أنها شر مطلق هو الذي أوصل الملايين من البشر إلي مرحلة الانتحار الاجتماعي وقد دفعت البشرية ثمناً باهظاً من روحها للخروج من جنة الشمولية إلى نار الرأسمالية التي صارت برداً وسلاماً على شعوبها، بل غدت لشعوب الشرق ولآخرين حلماً يراد لحظة الانعتاق من إسار النظام الشمولي الذي نرى بعض كوارثها أمام أنظار العالم بلا دعاية صاخبة ولا رتوش زائفة. فالنظام الشمولي في الشرق والغرب أثبت فشله، لأنه ثبَّت بذور فساده في جذوره المهترئة، فما نراه اليوم على سطح العالم في بعض الأماكن المضطربة هو شهادة إضافية لما أرشد إليه الأديب الإسباني "خورخي" الذي رحل أخيراً وهو في أمان الرأسمالية، بعيداً عن حديقة الشمولية.