تلقى هابيل عليه السلام تهديداً صريحاً بالقتل من أخيه قابيل بعد أن قرّبا قرباناً، فتقبّل الله قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته ولم يتقبّل قربان الآخر، فقال هابيل في جواب وعيد قابيل: (لَئِنْ بَسَطتَ إليَّ يَدَكَ لتقتلني ما أنا بباسطٍ يديَ إليك لأقتُلكَ إني أخافُ اللهَ ربَّ العالمين). ويقول بعض المفسّرين إن هابيل كان أشدّ قوة من أخيه قابيل، لكن التحرّج (الورع) منعه أن يبسط يده إلى أخيه ولم يشأ أن يبدأه بالظلم والعدوان، وأن هابيل لم يدافع عن نفسه لأنه لم يكن عالماً بعزم أخيه على قتله، خصوصاً أنه قُتل غيلة وهو نائم، إذ جاء قابيل بصخرة وألقاها على رأس أخيه فشدخها. وعلى رغم أن هابيل وقابيل ضربا لبني آدم من بعدهما مثلاً في عاقبة الورع ونهاية الظلم، إلا أن البشر دائماً كانوا ينحازون إلى القاتل لا إلى المقتول، ومن ذلك ما يُروى عن رجل جاء إلى عمر بن الخطاب يشكو إليه شاعراً ذم قبيلته ببيتين من الشعر قال فيهما: "قبيلته لا يخفرون بذمة.. ولا يظلمون الناس حبة خردل. ولا يرِدون الماء إلا عشية.. إذا صدر الوراد عن كل منهل"، فقال عمر: ليت آل الخطاب كذلك، فما أرى بهذا بأساً. فعمر ينظر إلى الأمور من زاوية هابيل، فـ"الهابيليون" هم الذين لا يخونون ذممهم، ولا يظلمون الناس، ولا يزاحمونهم، ولا يقاتلونهم لأجل الدنيا، بينما الرجل الشاكي ينظر إلى الأمر من زاوية "قابيلية". وشاعر قرر أن يهجو قبيلته لأنها لم تقف إلى جانبه في قضية اشترك فيها، فقال: "كأنّ ربك لم يخلق لخشيته.. سواهم في جميع الناس إنسانا". فأصبحت خشية الله أمراً مذموماً عنده، وهي أخلاق "قابيلية" بامتياز. والحال أن مدينة الفلاسفة الفاضلة للأسف لم تكن ولن تكون في يوم من الأيام، وستبقى الدنيا محكومة بمنطق الآكل والمأكول، والظالم والمظلوم. وقد تمر بالمرء أوقات لا يكون فيها آكلاً ولا مأكولاً، وهذا الوضع لا يدوم، ولابد أن يأتي اليوم الذي يقف فيه المرء أمام هذين الخيارين، سواء في صراع على الحياة، أو في معاملة تجارية، أو في مجال الوظيفة، أو في علاقة اجتماعية. وفي دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعلني مظلوماً ولا تجعلني ظالماً"، لكن يفضّل بعض الناس أن ينحازوا إلى قابيل ويأكلوا الآخرين، وشعارهم: تغدَّ به قبل أن يتعشى بك، ويعتقدون أن الاحتيال على الناس وخداعهم شطارة و"فهلوة"، وفي عُرف الناس أنه لو حدثت مشكلة بينك وبين شخص ما، أية مشكلة، فمن سبق الآخر إلى مركز الشرطة يصبح هو المجني عليه بشكل تلقائي. والأكل أو الظلم على جميع المستويات يمكن تصحيحه بعد ذلك، ويمكن التعويض عنه، ويمكن الاعتذار منه، ويمكن الندم عليه، ولكن الظلم الذي ينجم عنه إزهاق روح لا يجدي معه شيء. ولعل أجمل ما فعلته الثورات العربية أنها تمسّكت بالسلم ولم تبسط يدها لتقتل، وأسوأ ما فعلته الأنظمة أن بسطت يديها على الآخر.