لاشك أن الجريمة البشعة التي خطط لها ونظمها متطرف مريض في قلب العاصمة النرويجية وضد معسكر للشباب في جزيرة قريبة منها قد هزَّت النرويج وأوروبا كلها، بل العالم بأسره، ليس فقط لأنها عملية إرهابية كبيرة وبشعة، ولكن أيضاً لأن أحداثها المأساوية وقعت في النرويج تحديداً، ذلك البلد المسالم والداعي المجتهد بصدق ونزاهة إلى السلام، وصاحب الدور المشهود في التوسط الإيجابي غير المنحاز لحل الصراعات والحروب الأهلية في بلدان عديدة بعيدة، وشعوب لا تربطه بها إلا رابطة الإنسانية. ولذا فإن النرويج، ظلت منذ عقود على رأس قائمة تقارير الأمم المتحدة ومنظماتها ولجانها المعنية بحقوق الإنسان ومشاكل اللاجئين. ولكل ذلك، فإن الكارثة النرويجية صدمت غالبية البشرية التقدمية، وكانت كلمة "الصدمة" هي العنوان المشترك لكل صحافة العالم تقريباً في وصف جريمة يوم الجمعة الماضي. وقد كان ذك البلد أيضاً نموذجاً ومثالاً يحتذى في سلوك حكومته وشعبه على مسرح السياسة الدولية. وعلى رغم بشاعة وخطورة الحادث التي يمكن أن تفقد الناس والقادة رشدهم، فإن رئيس الحكومة النرويجية التزم المشاعر الإنسانية الراقية وهو يشارك شعبه تشييع الضحايا الأبرياء، وكانت كلماته الأخيرة الشجاعة دالة وقوية حين وجه الخطاب للمجرمين وأصحاب العقول المريضة التي أنتجت هذا الإرهابي المجنون: "أقول للمجرمين الإرهابيين إن الإرهاب قد يقتل فرداً أو أفراداً، ولكنه لن يستطيع أبداً قتل إرادة وعزيمة الشعب النرويجي، وستبقى النرويج آمنة وصامدة خلف مُثلها وقيمها". سيكتب ويقال كثير عن جريمة الجمعة في النرويج، ولكن في هذه اللحظة ينبغي أن توجه الكلمة الأولى إلى قادة المجتمع الغربي وسياسييه وشعوبه ووسائل الإعلام الغربية، وهي أن سياسات وبرامج ودعاوى ومشروعات اليمين الشعبوي الذي صارت له الغلبة في كثير من دول أوروبا، هي ما هيأ الظروف التي نشر فيها المتطرفون اليمينيون شرور التعصب والتطرف والكراهية ضد المسلمين وجعلوا الإسلام والمسلمين هدفاً استراتيجيّاً وصوروه عدوّاً أبديّاً. إن كل الجهود الأمنية والفكرية في الغرب كانت موجهة خلال الفترة القريبة الماضية لمطاردة وقتل المتطرفين الإسلامويين، وقد ساندت في ذلك أجهزة إعلام وكتّاب وصحفيون منحرفون اعتبروا أن تجريح الإسلام والمسلمين وأخذهما بجريرة أفعال حفنة من المتطرفين يمكن أن يكون حلاً لتحديات التطرف والإرهاب التي يواجهها الغرب والشرق معاً. هذا في حين كان التطرف والتعصب اليميني البغيض من القوة والنفوذ منذ أن صعد بوش الابن وجماعته إلى المسرح، بحيث أصبحت سياسات اليمين المتطرف الموجهة ضد المسلمين تحت يافطات التخويف والإرهاب هذه، هي المتمكنة في الغرب عموماً وأوروبا خصوصاً (لأسباب سياسية انتهازية من بعض ساسة أوروبا وحكوماتها). والحاصل الذي دلت عليه هجمتا النرويج أن جنون التعصب والتطرف والإرهاب ليس له دين، فهذا الداء البغيض يصيب بعض المسلمين والمسيحيين والهندوس واليهود... الخ، وهو ينمو في أجواء توفرها له وتخلق أسبابها كافة أنواع المطامع وأشكال سوء الفهم القديمة والجديدة بمختلف أنواعها... والخطأ الذي وقع فيهم كثير من صناع القرار في الغرب هو أن تركيزهم على التطرف الآتي من الشرق جعلهم يخلدون للغفلة عن التطرف المتنامي عندهم في الغرب نفسه، ولذا ركزوا كل جهودهم نحو بلاد المسلمين وشعوبها ولم يدركوا في الوقت المناسب أن ما يسمونه الإرهاب الدولي قد دخل عندهم في (الحوش) ونما وترعرع تحت أنظارهم، وأصبحت جذوره ممتدة وبات اقتلاعها أصعب مما يتصور كثيرون. وإذا لم يدرك قادة "العالم الديمقراطي" تلك الحقيقة فسيصبحون هم أول ضحاياها، في نهاية المطاف.