كان حنق لينين عظيماً حين تمرد الجنود في سان بطرسبرج، فقد سبقته الثورة ولم يكن يتوقع اندلاعها بقدر غفلة أهل أتشيه في أندونيسيا عن قدوم التسونامي، وهو أيضاً مفاجأة غير سارة لكل محللي البنتاجون حول بركان الشرق الأوسط. وأعترف أنا شخصياً أني كنت في يأس مقيم وإحباط أحاطا الرؤية فغبشت عيناي فأنا كليل، وهو ما دفعني أن أغسل يدي من بلدي وأكرر قول إبراهيم إني مهاجر إلى ربي، فهجرت ديار "البعث" إلى يوم البعث. حقيقة أقول لو أن عربة البوعزيزي اشتراها نصف القادة العرب بنصف تريليون يورو، لربما أخّروا المخاض! وليس بالأمر المؤكد؛ فقدر الله أمراً حين أحرق البوعزيزي نفسه ومعه احترق العالم العربي فالتهم مفاصل نصف أنظمة حكمه. العالم العربي بعد حريق البوعزيزي لم يعد كما كان قبل ذلك الحدث، وهو يذكر بأحداث 11 سبتمبر 2001 بفارق عشر سنوات. وخلال عقد واحد رسمت خرائط جديدة فتغير العالم وبدأ المخاض في العالم العربي. ونحن نعلم من البيولوجيا أن أخطر لحظات الولادة هي خمس دقائق مع استقبال الجنين للحياة؛ فإما ولد سوياً وإما بانقطاع الأكسجين قد يبقى ذلك الجنين معتوهاً بقية الحياة وكذلك قدر الثورات. حين ولدت الثورة الفرنسية لم يكن اسمها ثورة، واحتاج الأمر ثلاث سنوات قبل أن يُطاح برأس الملك لويس السادس عشر وماري أنطوانيت ومعهما طبقة كاملة من الأرستقراطيين على شفرة المقصلة. مازلت أتذكر كلمات الفقيه المطهري في قم مع بدايات الثورة الإيرانية وهو يتحدث عن البناء والهدم في الثورات: لقد هدمنا بناية كبيرة وكل التحدي في البناء. وأنا اليوم تنتابني الحسرة، فأقول: ياحسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون. إن ما يهدد الثورات العربية الممتدة من نواكشوط حتى القامشلي ليس حرق مفاصل الأنظمة الجمهورية القديمة بل القدرة على البناء بعد الهدم. وهو ما نراه اليوم في تونس ومصر. القوم حيارى والاضطرابات كبيرة وقوى النظام القديمة تضرب بجذورها في تربة عطنة، والعسكر يتحلب ريقه للالتهام، والجماهير في فوضى بدون انتظام. إنها مرحلة خطيرة تذكر بكيرنسكي في روسيا عام 1917، وروبسبير واليعاقبة في الثورة الفرنسية، وتوماس سنكارا من بوركينافاسو... قبل أن تتحول الثورة إلى كارثة. هل يحق لنا أن نكرر مقولة أرسطو عن خوفه من الثورات ومآلها؟ أو نقول ما قاله كانط: إن يوماً من الاستبداد لا تعدله كل فظاعات المقصلة الفرنسية!