هناك حاجة إلى نقاش معمق لمقولة الاستقرار وموضعتها في إطار التغيرات الجذرية التي تشهدها المنطقة من منطلق ما تجلبه الثورة من فوضى مؤقتة يستغلها أعداء الثورات. والمدخل الأساسي التوافقي هنا هو التأكيد على مركزية الاستقرار في حياة المجتمعات وبكونه الأساس الذي تنبني عليه أية حياة جماعية صحية وآمنة. الاستقرار والأمن والحرية والكرامة والعدالة هي مطمح نضالات الإنسان منذ فجر البشرية. وتحقيق الاستقرار وضبط أية عوامل تخل بأمن المجتمعات والحواضر كان، تاريخيّاً، هو المهمة التي تقوم بها أية فئة حاكمة، وهو المعيار الذي يحكم المجتمع من خلاله على حاكمية وأهلية الحكم واستحقاقه البقاء على رأس السلطة. وعلى مدار حقب البشرية كان هذا الاستقرار، وهو الذي يمثل رأس مال الحكم، يُنجز على الدوام عن طريق السلطة والقمع والفرض. والمساومة التاريخية التي عقدتها الشعوب القديمة مع من يسيطر على الحكم فيها كانت تحوم دوماً حول الانصياع للأمر القائم ما دامت الحدود الدنيا من العيش الآمن متحققه حتى لو كان ذلك مترافقاً مع الاستبداد. وقد قامت هذه المساومة على تجربة كثيفة ومريرة في تواريخ المجتمعات كان عنوانها ضرورة الاختيار بين أمرين يتقاربان في مستوى المرارة: إما الاندراج في صراعات متأبدة وتنافسات بين القوى والمجموعات المتنافسة داخل أي مجتمع بحيث تعم الفوضى وينعدم الاستقرار وتستحيل معه الحياة الآمنة والطبيعية، وإما التسليم لحكم قوي مستبد يحقق الأمن ويقضي على الفوضى. وقد بقيت هذه المعادلة هي المتسيدة في أنظمة الحكم السياسي واغتنت بتنظيرات وتسويغات ربما في كل ثقافات وحضارات الإنسانية، من الصينية والهندية إلى الفارسية والعربية والإسلامية وصولًا إلى الفكر الغربي مع ميكافيلي في كتابه "الأمير" وتوماس هوبز في تنظيره لأولوية و"قداسة" الدولة ومبررات فرض الاستقرار. وعلى ذلك يمكن القول إن الاستقرار والاستبداد ظلا من أشهر توائم التاريخ وأطولهما عمراً. ولم ينفصل هذا التوأم إلا حديثاً في تاريخ البشرية، فمع عصر الأنوار انطلقت نظريات جديدة تعلي من إرادة الشعب وترفض فكرة الاستبداد المقيم الذي يفرضه الحاكم بمسوغ تحقيق الاستقرار. وجاءت أفكار الجمهورية والعقد الاجتماعي مع مونتسكيو وروسو لتنزع من ملوك أوروبا احتكارهم الحكم وتقوض كل الأسس التي قامت عليها، ولتشكل ثورة حقيقية في تاريخ الإنسانية في أوجه عديدة، منها وعلى المدى الطويل بداية تفكيك العلاقة القديمة بين الاستقرار والاستبداد. ومع أفكار الإرادة العامة وإعلاء قيمة الفرد والشعوب بدأت العملية التاريخية المتمثلة في انتقال الأفراد من مرحلة "الرعية" و"الاتباع" كما كان يُنظر إليهم من قبل الكنيسة وملوك أوروبا القرون الوسطى إلى مرحلة المواطنين كاملي الأهلية والحقوق والمساواة. وبدأت بالترافق مع ذلك عملية الانقلاب الهائل في الأدوار حيث تبدل مفهوم وموقع "المواطن" متجهاً لاحتلال جوهر الاجتماع السياسي ومركز النظام السياسي القائم، وحيث تبدل مفهوم وموقع الحاكم كي يصبح مجرد مفوض مؤقت بعقد اجتماعي ذي فترة زمنية محدودة، ووظيفته خدمة المواطن. ولم يحدث هذا الانقلاب دفعة واحدة بطبيعة الحال، أو في فترة زمنية قصيرة، أو من دون أكلاف باهظة. بل استمر قروناً عدة وما زال قائماً وتضمن حروباً دموية مديدة، دينية وإقطاعية وملوكية، ذلك أن الاستبداد قاوم ولا زال يقاوم بشراسة بالغة متدرعاً دوماً بمقولة إنه الوحيد الذي يحقق الاستقرار. ولكن على طول تلك القرون كان الاستبداد يخسر أرضاً جديدة في كل مرة، وكانت الحرية تتمدد. وقد انتقل الفكر الإنساني مدعماً بالتجربة التاريخية إلى مرحلة جديدة هي إمكانية تحقيق الاستقرار مع الحرية. ومع أن استقرار الاستبداد محتمل إلا أنه مؤقت ونهاياته دموية على الدوام. وسبب ذلك أن آلية الاستبداد تقوم على دفن المعضلات وحشرها تحت السطح والتظاهر بأنها غير موجودة. ويتوازى مع ذلك خوف "الرعية"، الأفراد، من مواجهة المُستبد ومطالبته بمواجهة تلك المعضلات التي يقع في جوهرها دوماً الاستيلاء على الثروات العامة وانتشار الفساد وتفاقم سرطانات سوء استغلال السلطة بكل أنواعها. وعلى العكس من ذلك تشتغل آلية استقرار الحرية على مواجهة تلك المعضلات تحت الشمس ومحاولة حلها. وكل فساد يظهر تتسلط عليه الأضواء ويُفضح. والشعب القائم على فكرة المواطنة القانونية والمساواة، أي الأفراد الأحرار، هم من يحاسب الفاسدين والحكم، ومن خلال الفصل بين السلطات يمنعون أي تغول لفئة حاكمة أو جماعة مستأثرة بثروة أو قوة على حقوق الشعب وحرياته. إن استقرار الاستبداد يستقوي بمسوغ دائم يقول إن المجتمع، أي مجتمع، فيه مكونات وطوائف وإثنيات وأديان وجماعات منفصلة ومتعادية، جاهزة للانقضاض على بعضها بعضاً فور انزياح قبضة الاستبداد عنها ولو قليلاً. ولذا فالاستبداد، حتى لو كان على حساب حرية الأفراد، يضبط مكونات المجتمع المتصارعة ويقلم أظافرها ويدفعها كي تبقى مرعوبة من بطش النظام القائم. وهكذا يتم قمع الحروب الأهلية المحتملة ويعيش الجميع في استقرار، ولكن في جو من الخوف الدائم. والشكل العام لهذه الفكرة وتطبيقاتها التاريخية فيه قدر كبير من الواقعية. ولكن مفعولها الإنساني انتهى ولم يعد لها رأس مال حقيقي في العالم المعاصر. فالاستقرار المتحقق من قمع كل مكونات المجتمع المتصارعة في عالم اليوم المعقد والمتداخل هو استقرار موهوم ومؤقت. ذلك أن حقيقة ما يتم لا تتجاوز دفن الخلافات وأسباب الصراع تحت السطح وتأجيل انفجارها. ولا يعمل الاستبداد خلال حقب الاستقرار التي يحققها على إبطال مفاعيل الصراعات بين الجماعات المتنافسة في المجتمع، بل يشتغل في الغالب الأعم على الحفاظ عليها وأحياناً تأجيجها لأن وجودها يبرر شرعية بقاء الاستبداد ذاته. وأحياناً كثيرة أخرى يتحالف الاستبداد مع جماعة، أو طائفة، أو عصبية، تكون هي العمود الفقري الذي يستند إليه مستعديّاً بقية مكونات المجتمع مستأثراً بالحكم من ناحية ومانحاً المزايا والأفضلية للجماعة المُتحالف معها. وهكذا فإن العلاقات بين المكونات المتنافسة في مجتمع الاستبداد تقوم على العداء المبطن والتربص الدائم المقموع بآلية الضغط التي يفرضها الحكم. وهي بهذا تكون علاقات هشة قائمة على انتظار الانفجار القادم. وفي الاستقرار المبني على الحرية تتصارع القوى المتنافسة داخل المجتمع بعنف شديد أولًا، قد يتخذ أشكالًا دموية، ثم يخف تدريجيّاً إلى أن تكتشف هذه القوى أنه لا حل أمامها سوى التعايش فيما بينها، والوصول إلى معادلات مساومية وتنازلات متبادلة. وعندها يتم تقليم الزوايا الحادة والمتوترة والعنيفة لدى كل جماعة، أو طائفة، أو إثنية، بشكل طوعي وقناعي وتتجه الكتل الأساسية والكبرى للجماعات نحو الوسط المعتدل في النظرة لنفسها وللجماعات الأخرى. ويبقى الصراع والتنافس في ما بينها قائماً ولكنه يتحول إلى صراع سلمي آليات التعبير عنه ديمقراطية وليست عنفية. وهكذا يتم الاعتراف بالصراعات والتنافسات والتخلي عن النظرة الساذجة للمجتمع بأنه منسجم ومتناغم كأنه عائلة متحابة، وهي نظرة تروجها بعض الأنظمة المتسيدة التي تستند إلى ترسيخ الأبوية السياسية في الحكم والمجتمع. والحال أن الاعتراف بالصراعات والتنافسات داخل المجتمع يؤدي إلى صلابة في التمسك بالحل الديمقراطي لتنظيمها، ليس لأنه خالٍ من النواقص، بل لأنه الأفضل نسبيّاً بين كل الحلول الأخرى التي وصلت إليها البشرية. وفي مثل هذه الحالة يتم إنجاز الاستقرار ليس على حساب الحرية بل معها، ومعهما تُصان كرامة الفرد المواطن وتنطلق إبداعاته وطاقاته، على عكس استقرار الاستبداد.