عندما كتب أريك هوبزباوم رُباعيته عن القرنين التاسع عشر والعشرين، سمَّى قسمها الثاني "عصر الثورة 1789-1848". وعصر الثورة عنده مركزُهُ بالطبع أوروبا. أما الثورة ذاتُها فتُمثّل انقلاباً عميقاً في البُنى الاجتماعية والثقافية والسياسية. والفئات الحاملةُ المباشِرة هي فئاتُ العامة، التي يقودُها مهيِّجون ذوو قُدُرات ثقافية سطحية وعامة، إنما هم ذوو قُدُرات خطابية هائلة. وكُلُّ هذه الملاحظات مكتَسَبة عنده من خبرات الثورة الفرنسية (1789)، واستناداً إليها ذهب إلى أنّ الإعداد حصل خلال قُرابة نصف قرن، وقاد الإعدادَ مثقفون كبارٌ طوَّروا الأُطروحات الأساسية، لكنّ أكثر هؤلاء ما شاركوا مباشرةً في الثورة أو الثورات، أو وقفوا ضدَّها عندما حصلت، إمّا لأنهم فوجئوا بعنفها أو لأنهم فوجئوا بالضخامة الظاهرة للجمهور المُشارك غير المثقَّف. وكُلُّ هذه المواصفات لا تنطبق على الثورة الروسية (1917)، فالذي قادها حزبٌ حديديٌّ وعنيف، وما كان للعامة التلقائية دورٌ كبيرٌ فيها، كما أنّ قادتها الذين كانوا من كبار المثقفين، كانوا أكثر راديكالية من العامة والطبقة الوسطى الصغيرة المتحّمسة. ويمكن القول إنّ مواصفات هوبزباوم لا تنطبقُ أيضاً على الثورة الإيرانية. فالذين أعدُّوا لها هم من المثقفين المدنيين ذوي التوجُّه اليساري أو الليبرالي الراديكالي. إنما الذين تحركوا أولاً هم تجار البازار، وقادهُمْ رجال الدين الذين ما لبثوا أن ورثوا الثورة كلَّها! أما المثقفون الأوروبيون المذهولون بالثورة الإيرانية (من أمثال ميشال فوكو)، فقد سحرهُم فيها الاندفاعُ الهائل للجمهور، وقدرة رجال الدين على تحريكه بشعاراتٍ ليست ذات مغزى مادّي مباشر. لذا فقد استنتجوا أنّ الإسلام ما يزال يملك قُدُراتٍ تحشيدية وتفجيرية هائلة. وهذا سببُ خوفهم مما صار يُعرفُ بالإسلام السياسي. لكن الثورةُ الإيرانيةُ، وهي شيعية، لا تستطيع بحكم منشئها وطبيعة شعاراتها، أن تحشّد أهل السنّة بالقدر نفسِه. وبذلك فقد ارتعبوا لظاهرة بن لادن، حسباناً منهم أنّ الرجل يمكن أن يتحول إلى خُميني السُنّة. ومع أنّ شيئاً من ذلك لم يحدُث، فقد ظلَّت مستقرةً في الأخلاق قدرة الإسلام وطاقاته التحشيدية. وما يجري في العالم العربي اليومَ مختلفٌ كذلك عمّا جرى في إيران وقبله في روسيا أو في فرنسا. بل مختلفٌ أيضاً عمّا جرى في شرق أوروبا في التسعينيات. ففي شرق أوروبا كانت هناك على السطح الاجتماعي والسياسي قشرة من الحزبيين والكوادر المحترفين، وقد أُزيحت جانباً، فانطلق الجمهور على وقْع القيم والتنظيمات التي استقرت بأوروبا بعد الحرب الثانية. وبذلك فإنّ الأوروبيين الشرقيين إنما أفادوا من التراكُم الثوري والدستوري والقانوني على مدى قرنين من الزمان؛ فلم يبدأوا من حيث بدأ الفرنسيون أو الروس؛ بل من حيث انتهى إليه الفرنسيون والألمان والإيطاليون. صحيح أنّ العالَم العربيَّ جزءٌ من العالم المعاصر، وهو متأثرٌ بقيمه وتنظيماته ومساراته. لكنّ التطورات الدستورية والمدنية التي نضجت هناك، ما ظهرت ولا تطورتْ فيه قبل سيطرة العسكريين في الخمسينيات والستينيات على مقدَّراته. ثم إنّ الجمهور السنّيّ ليست للقيادة الدينية سيطرةٌ عليه، ولهذا ما مشى وراء قائد كارزماتي. وحتى "الإخوان" في زمن عزّهم في الأربعينيات والخمسينيات، ما عرفوا قيادات كارزماتية باستثناء بعض السِمات في حسن البنّا. لكنّ الذي يتأمل شخصية البنّا عن كثَب لا يجدُ فيها شيئاً من كارزماتية هتلر أو عجائبية الخميني. بل هو أقرب للقيادة الإدارية والسياسية المحترفة والدؤوبة وذات البناء المتأني والبطيء. وعلى أيّ حال؛ فإنّ الجمهور السُنّي يمكن أن يُسْحَرَ بحدودٍ معينةٍ بقياداتٍ بارزةٍ مثل عبد الناصر، لكنّ سِحْر عبدالناصر هو أيضاً سِحْر مصر وما ينتظره العربُ منها، أكثر مما هو سحرٌ شخصي. ثم إن علينا أن نعترف بأنّ زمن ناصر والخميني هو غير زمن الثورات العربية الحالية. لذلك ظللتُ لشهورٍ متردداً في تسميتها ثورات، وسمَّيتها حركات تغيير. وذلك لكي لا أقع أنا أو غيري في إسار البحث عن مُشابهاتٍ مع الثورات الفاشية أو الجماهيرية ذات البُعْد الديني الكارزماتي. فالثورات العربية هي تحركات شبانٍ من الطبقة الوسطى الصغيرة المتعلِّمة، وقد اندفع وراءهم جمهورٌ من أُصولٍ ريفيةٍ وأُخرى مدينية فقيرة، لكنه ليس الفقر المُدْقِع؛ بل الفقر بمقاييس المُدُن الصغيرة والكبيرة. ولذا لا تملكُ حركاتُ التغيير العربية قادةً كارزماتيين، كما لا تملك حزباً دينياً أو مدنياً ضخم القدرات. ولو تأمَّلْنا شعاراتِها الموحَّدة، أي الحرية والكرامة والعدالة، لأدركْنا سبب سلميتها الغلاَّبة. فالجهور بالمواصفات السابقة هو المندفعُ فيها، والشابُّ المنظِّم أو الحاشد إنما ينضمُّ للجمهور، ويشارك مثل غيره في التنظيم والكلام، وليس في الانطلاق والتأسيس. ما معنى هذه الميزات والسِمات؟ معناها أنّ حركات التغيير ليست حركات دينية أو ذات معاني وشعاراتٍ دينية، حتّى لو كان الأمر في ذلك على سبيل التحشيد. وهذا يعني أنّ هؤلاء لا يتظاهرون لأنّ دينهم منتَهَكٌ، وهو يطلب حمايتهم؛ بل يتجمعون ويخرجون من المساجد انزعاجاً من الفساد السلطوي، ومن القمع الجاثم على الصدور، وهم يريدون التحرر منه، ويعتبرون ذلك جزءاً من عملهم من أجل الحرية والكرامة. فالأنظمة الأمنية في الجمهوريات الخالدة مهما بلغ من سطوتها تظلُّ قِشرةً، يمكن إزالتُها بالتظاهُر وليس أكثر. ولا يمارسُ العنف لأنه في الشارع بكامل جهوزيته، وهو إن مارس العنف؛ فإنه سيتحول إلى أقليةٍ كما حدث من قبل مع المتمردين باسم القومية والآخرين المتمردين باسم الدين. وهو إنْ فعل ذلك فسوف يقف مكشوفاً أمام القوات الأمنية التي تُتْقن العنف سلاحاً وإعداداً أفضل بكثيرٍ مما يتقنه الجمهور. هل يعني ذلك أنها جديدةٌ في المحيط وعلى مستوى العالَم؟ نعم، هي جديدةٌ بعدة معان؛ فهي أولاً ليست ذات سِمة أو تنظيم حزبي، بل جزءٌ من المجتمع. وهي تُجرّبُ حريتها أو قدرتها على تحرير نفسِها. والحرية هنا تعني الكرامة أيضاً. إنّ هؤلاء الناس جرى انتهاك كرامتهم وحُرُماتهم على مدى عقود. وقد لجأ قسمٌ منهم من قبل إلى الدين لاستنقاذ الكرامة فلم يُفلحوا؛ لأنّ الخروج الشامل ما كان مُتاحاً، والخروج الجزئي كان يعني مقتلهم وسجن عوائلهم، وتشريد جوارهم، وخَلْق خنادق بينهم وبين المواطنين الآخرين. وهذا الجمهور يتخلّق بأخلاق الدين، فلا يمارس العنف حتّى لو واجهه رجال الأمن. ولا يعتدي على الحُرُمات لأنه خارجٌ من أجلها ومن أجل صَونها ونُصرتها. وهو يعتمد على نفسه وعلى الجيران وعلى المعارف وعلى المقدَّسات في التضامُن والاستغناء وتجاوُز الحاجة وقت التظاهُر والاحتجاج، كما يعتمد على الأخلاق في إدارة شؤونه المعيشية وقت التحرك الذي قد يطول. ولذلك فقد نشأت في البلدات والمدن السورية إدارةٌ ذاتيةٌ طوعية وتلقائية بعد الأُسبوع الأول. وهي تُديرُ نفسها بنفسها الآن، بل وتحمي الجوار الداخليَّ والخارجي، وتُشرك فئات الشعب من سائر أَلوان الطيف. وقد روى لنا المصريون حكايات تكاد تكون أساطير كيف كانوا يتحارسون بالليل والنهار، وكيف كانت الأحياء تنظّم مسائل الماء والكهرباء والطعام. لكنّ العالَم الذي أذهلته النوعيةُ الجديدةُ لهذه الثورات، رحَّب بها ترحيباً شديداً بعد التردد الأول. وقد كان ذلك للإحساس بأنها تطلب وتسعى إلى أمورٍ معروفةٍ ومشتركاتٍ موصوفة. وهذا معنى أنّ الثورات أو حركات التغيير العربية غير مألوفة لجهة أسباب سلميتها وسلامها، لكنها مألوفة لجهة التقائها مع العالم المعاصر في القيم والأهداف.