كيف يمكن للسلطة الرابعة، والتي من المفترض أن تكون سلطة مُستقلّة مُراقبة للسلطات الحكومية الثلاث، أن تكون سلطة فاسدة؟ هذا بالضبط ما حدث منذ أسبوعين وحتى الوقت الحاضر في قضية التنصّت التي اتّهمت بها صحيفة "نيوز أوف ذا ورلد" البريطانية، والتي يملكها الملياردير الأميركي المنحدر من أصول أسترالية "روبرت مردوخ". وهذا الملياردير الذي قدّرت مجلة "فوربس" قيمة أصوله المالية بنحو 7,6 مليار دولار، يمتلك أكثر من أربع وعشرين صحيفة في بريطانيا والولايات المتحدة وأستراليا وإسرائيل، وعشرات المجلات والصحف الصغيرة، والعديد من محطات التلفزة العالمية. ولعلّ من أهم ممتلكاته صحف "الصن" و"التايمز" و"الصنداي تايمز" البريطانية، وكذلك صحف "نيويورك بوست" و"وول ستريت جورنال" و"واشنطن تايمز" في الولايات المتحدة. كما يملك العديد من محطات التلفزة، من أهمها محطات "فوكس" في الولايات المتحدة، وفروعها في أوروبا وأميركا الجنوبية. وكذلك ملكيته الجزئية لمحطة "سكاي ب سكاي" في بريطانيا وفروعها في أوروبا والهند والصين. بمعنى آخر فحين يتحدث المرء عن مردوخ فهو يتحدث عن أمبراطورية إعلامية ضخمة تصنع السياسيين، وقد تطيحهم. كما أننا نتحدث عن شخصية رجل أعمال انتهازي، يستطيع تغيير ولاءاته واتّجاهاته كما لو كان يغيّر قميصه الخاص. وبينما كان روبرت مردوخ يتبنّى بعض التوجّهات اليسارية في شبابه، فإنه جنّد نفسه في شيخوخته لمصلحة الأجندات اليمينية، وأصبحت صحُفُه ومحطاته التلفزيونية تدعم الرئيس الأميركي السابق بوش الابن، وكذلك توني بلير في بريطانيا. غير أنّ ما أسقط الإمبراطور هو الفضيحة التي بدأت أطرافها في التكشّف عام 2006، وانفجرت على الملأ قبل أسبوعين في بريطانيا، حيث كتب الصحفي البريطاني "شين هور" مقالةً اتّهم فيها صحيفة "نيوز أوف ذا ورلد" المملوكة لمردوخ بأنها مسؤولة عن التنصّت الهاتفي على المكالمات والرسائل التي تصل إلى كبار الشخصيات السياسية في بريطانيا، وبعض أعضاء الأسرة المالكة، وكذلك على الطفلة المقتولة "ميلي داولر" وغيرها من ضحايا أحداث الإرهاب في بريطانيا عام 2007. وقد تبنّى حزب "العمّال" البريطاني المُعارض الدعاوى المقامة ضد مردوخ وأركان إمبراطوريته، وضغط على رئيس الوزراء كاميرون من أجل تشكيل لجنة تحقيق قضائية تنظر في هذه المخالفات القانونية، كما عارض الحزب ومعه الأحزاب الأخرى في الحكومة البريطانية محاولة مردوخ الاستيلاء الكامل على أسهم محطة سكاي التلفزيونية. واضطرّ مردوخ أن يمثل أمام لجنة تحقيق في البرلمان البريطاني، كما سُجن بعضٌ من معاونيه وكبار موظفي شركته. وهناك إجماع شعبي في بريطانيا هذه الأيام على أنه يتحتّم تفكيك جزء من الإمبراطورية الإعلامية التي يملكها هذا الملياردير حتى يمكن للشعب البريطاني أن يحصل على معلوماته بشكلٍ دقيق ومحايد. وقد عُرف عن مردوخ ميوله الصهيونية، فهو صديق حميم لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، ويملك صحيفة يومية تصدر في إسرائيل. كما يفخر بانتماءاته السياسية الصهيونية، وهو ما يتماشى مع مسيحيته المتطرّفة. ولم يبن مردوخ إمبراطوريته من الصفر، فلقد كان والده يملك صحيفتين في أستراليا مسقط رأسه، كما أنّ جدّه لأمه كان مالكاً لإحدى كازينوهات القمار، ومقرباً من الساسة الأستراليين. وقد أخذ مردوخ عن جده وأبيه تعاطيه مع الشؤون السياسية ودعمه للسياسيين الشباب الناجحين، وقد أكسبه ذلك نفوذاً في أوساط هؤلاء الساسة، ما سمح لشركته بالتوسّع والامتداد، حتى غدت من أكبر الشركات الإعلامية في العالم. وهناك من يدافع عن مردوخ كونه يصارع من أجل بقاء الصحافة المكتوبة في وقتٍ باتت فيه مثل هذه الصحف عرضة لتكبد الكثير من الخسائر. ولا يعني هذا أن مردوخ شخصية تطوعيّة، حيث عمد إلى فصل المئات من موظفي صحفه ومجلاته حتى تستأنف ربحيتها من جديد. وقد اضطرّ مردوخ إلى إقفال جريدة "نيوز أوف ذا ورلد" قبل أسبوع بسبب فضيحة التنصّت بعد اتّهام محرريها كولسون وربيكا ويد في هذه القضية، بعد أكثر من 168 سنة على صدورها. كما اضطرّ رئيس شرطة سكوتلانديار ونائبه إلى الاستقالة من منصبيهما بسبب تهم متصلة بمحاولة تغطية التحقيق في قضايا التنصّت. وقد زادت من الإشكالات القائمة وفاة محرر سابق في جريدة "نيوز أوف ذا ورلد"، هو "شين هور" الذي سبق وكتب مقالات عن فضيحة التنصّت التي كانت تقوم بها الصحيفة، مع أنّ الشرطة البريطانية إلى الآن لا تعتقد بأنّ وفاته ذات صلة بالتحقيقات في قضية مردوخ الحالية. وعقب تفجر هذه المشكلات في بريطانيا، فقد أصبح على مردوخ أن يجيب عن أسئلة كثيرة ويحضر العديد من جلسات التحقيق البرلمانية في بلده الأصلي أستراليا أيضاً، وفي الولايات المتحدة كذلك. لكن الدرس الذي ينبغي ألاَّ ننساه هو أنّ الصحافة لم تعد سلطة موازنة وناقدة للسلطات الحكومية، بل باتت سلطة مؤثرة ومتأثرة بمصالح تجارية وشخصية يمكن أن تحرفها عن مسارها الأصلي، وهي في هذا بحاجة إلى من يقوّمها هي أيضاً، ويتأكد من عدم محورة الملكية أو السلطة فيها.