ليس هناك أصدق تعبير عن قيمة الوطن من حالة اليتيم الذي فقد والده أو اللطيم الذي فقد والديه، فيحل آنذاك الوطن بديلاً طبيعيّاً وتعويضيّاً لاحتوائه ورعايته مع وجود الآخرين بالطبع، إلا أن الوطن الذي يسمى في بعض الثقافات الإنسانية بـ"الأم الكبرى" هو الذي يحمل على عاتقه إيصال هذا المكلوم بفقد حبيبيه إلى برّ الأمان، وهو الواجب التلقائي الذي يقوم به الوطن لإعلاء شأن مواطنيه في مختلف ظروفهم الخارجة عن إرادتهم. فالحدود الجغرافية والأحجام والأعداد والتضاريس ليست المقياس الوحيد في غرس بذور الوطنية في القلوب، فعلى امتداد العالم العربي والإسلامي، هناك الملايين الذين يعدون أوطانهم أقرب إلى السجون منها إلى الواحة الغناء التي يتغنى بها الشعراء. ما الذي أجبر ملايين آخرين على الهجرة إلى أوروبا وأميركا إلا بحثاً عن وطن بديل لوطنهم الذي اتسع لكل شيء إلا مواطنيه، فتحمل البعض الموت غرقاً أو الحجز مخالفة للأنظمة والقوانين أو العيش على هامش تلك المجتمعات تفضيلاً على العودة إلى وطن فقد فيه أعز ما تتميز به الأوطان من حميمية الولاء والاشتياق الفطري. فتلك الأوطان الشاسعة التي طردت من جوفها أعز ثرواتها التي يستفيد منها الآخر وهي أشد حاجة، حريٌ بها أن تقف لحظة لتراجع الكثير من ممارساتها التي لم تجن من ورائها إلا سنوات عجافاً من التخلف، فيما يمضي الآخرون إلى أعلى ذرى التقدم. نقول هذا، نظراً لمعاناة بعض المجتمعات التي اهتزت فيها أركان الاستقرار في رحلة بحث عن الوطن الأم البديل الذي يحل مقام الوالدين إذا ما عقّا أبناءهما، إلا أن عقوق الأوطان لأبنائها أشد إيلاماً بعد فقد الوالدين أو التنكر لهم لسبب أو لآخر. وحتى يدرك البعض هذه الحقائق الساطعة لضرورة وجود وطن آمن يُحمى بفلذات الأكباد، فالإمارات نموذج على أنها الآمن على أبنائها إذا ما اشتدت الأزمات عن بعد. والحديث عن مصاب الآخرين في أوطانهم، وأسباب ذلك لا علاقة له بمجريات الأحداث، بل العكس هو الذي تقوم به الإمارات عندما تمد يد التصالح والتعاون إلى تلك الأوطان التي لا تقبل لها الوقوع في مهب تلك الرياح المتغيرة، بمبررات لا تقف على أرض صلبة من ذاتها. فتجارب التاريخ في الكثير من المعضلات التي حلت بالأمة العربية منذ حرب الخليج الأولى والثانية، فالإمارات كانت سباقة لإطفاء فتيل الحرائق منذ البداية لولا عناد البعض ومكابرته حتى تم إحراق مقدرات الأمة العربية بمليارات الدولارات التي تناثر ردماها وهي الآن تعود من جديد لبعثرتها الماضية دون أن يكون لصوت العقل والحكمة رادع أو وازع لعدم الاستمرار في هذا النوع من حرق عظام الأمة بعد جلودها. إن حوادث التاريخ ومجرياتها الآنية تحملنا مسؤولية الالتفاف حول وطننا الإمارات التي لم تألُ جهداً وفي جميع المحافل الدولية بالإعلان عن ضرورة السلام والسلم العالمي، وأن الحروب بجميع أنواعها ومسمياتها لا تورّث إلا المزيد من الدمار والكوارث الإنسانية ولفترات طويلة يصعب على المال المحروق والمخزون حل مشاكلها. ترى ألم تترك التغييرات الأخيرة في بعض الأوطان العربية شعوباً يتمت أفرادها فعلاً وهي التي كانت تبحث عن أوطان تعوضها يتمها المعنوي، فكيف الآن وقد اجتمعت عليها بدل اليتم يتمان، فالحذر كل الحذر أن ينساق البعض إلى هذا التبرير في وطن الإمارات الآمن على مصالح الشعب والساهر على رعايته.