في الكتاب الذي نعرضه هنا بعنوان "اهتزاز ساحة القصبة... الغضب والتمرد في العالم الإسلامي"، تسعى الكاتبة والصحفية الأميركية "روبن رايتس" إلى مقاربة الثورات التي تجتاح العالم العربي بطريقة مختلفة، محاولة عدم الاقتصار على التحليل السياسي وإن كانت تلتزم بالسرد التسلسلي للأحداث بدءاً بانتفاضة تونس وانتهاء بتنحي مبارك مروراً بما يجري في سوريا وليبيا واليمن من مخاض لم يكتمل بعد. فالمؤلفة تنفتح على العامل الثقافي الذي تعتبره السياق الأهم لفهم التحركات السياسية والتغيرات الكبرى التي يمور بها العالم العربي، فالثقافة والسياسة في نظر الكاتبة مرتبطان ولا يمكن فهم الانتفاضات الجارية في العالم الإسلامي دون الرجوع إلى جذورها الثقافية في هذه البلدان التي تهتز تحت وقع الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية والتغيير. وبدلا من تركيز الانتباه على دراسة الحياة السياسية الرسمية، تدعو الكاتبة السياسيين في الغرب إلى الإنصات لنبض الشباب والاطلاع على الثقافة التي تحركهم، ثم تغوص بنا في العلاقة الخاصة التي تربط الإنسان العربي بالدين، إذ خلافاً للأفكار السائدة في الغرب المشككة في قدرة المعتقدات الدينية على التكيف مع متطلبات العصر، تصر الكاتبة على تصحيح هذه التصورات المغلوطة. ولتصويب ما تراه خطأ تستند إلى تجربتها الطويلة داخل المجتمعات العربية والإسلامية، فهي كمراسلة سابقة لصحيفة "لوس أنجلوس تايمز"، ظلت تنقل الأخبار من الشرق الأوسط وتعايش أهله لسنوات. وانطلاقا من تجربتها، تلاحظ أن الشباب الذي يقود الاحتجاجات في بلدانه لا يرى الدين كما يفهمه الغرب عائقاً أمام الثورة والاندماج ضمن سيرورة الحداثة ومستلزمات العولمة الكاسحة، ويظهر ذلك في رؤية خاصة لهؤلاء الشباب ترفض التدين في صيغته التقليدية الساعي إلى إرهاق المجتمع بالقيود والموانع، مقابل تدين منفتح يصل الشاب مباشرة بالقرآن الكريم. وذلك ما يفسر رغبة الشباب في الحفاظ على مبادئ الإسلام الأساسية، وفي الوقت نفسه تبني نظام حياة عصري، فلا تناقض في نظرهم بين الالتزام بمبادئ الدين الإسلامي والمطالبة بحياة سياسة ديمقراطيات حديثة وعصرية. وخلافاً للتيار المتدين التقليدي، يستند شباب الثورات العربية إلى موروث إسلامي واسع لا يرى غضاضة في تقويم اعوجاج السلطة دون الانجرار إلى العنف. وهذا الارتباط بين القيم الثقافية والدينية من جهة، والحداثة في شقها السياسي الديمقراطي من جهة أخرى، قوض ليس فقط دعائم التيار المحافظ في بعض المجتمعات العربية، بل كرس فكرة أساسية مفادها أن الحداثة لا تنبعث إلا من الداخل، كما أنه نسف النظرة الاستشراقية التي أرجعت الاستعصاء الديمقراطي في العالمين العربي والإسلامي إلى عوامل ثقافية، بل الأكثر من ذلك أثبت الشباب الذي انتفض ضد الأنظمة الديكتاتورية المدعومة من الغرب أن الإسلام لا يقود بالضرورة إلى العنف. والمفارقة، تقول الكاتبة، أن التطرف يكون نتيجة تدخل الغرب إما من خلال حروبه المتعددة في المنطقة، أو بدعمه اللامشروط لأنظمة مكروهة شعبياً. وإذا كان الشباب الذي يشكل غالبية السكان في العالمين العربي والإسلامي قد تصالح مع الدين، عكس ما حاولت الأيديولوجيات العلمانية الترويح له دون جدوى، فإنه قام بذلك من خلال مجموعة من الرموز الثقافية التي تجمع بين جوهر الدين وبين مظاهر التحديث، ومن ذلك طريقة اللباس (الحجاب العصري بأناقته البادية)، وبعض الظواهر المستجدة كالدعاة الجدد الذين باتوا ينافسون نجوم الفن والسينما على الشهرة. ومع أن ذلك المزج بين المعايير الثقافية لدى الشباب المسلم وبين قيم الحداثة في شقها السياسي التحرري، قد لا يفهمه الغرب، فإن ذلك لا يمنع من استكشاف فوائده، إذ بات معروفاً أن الثورات السلمية التي أطاحت بأنظمة الحكم مثلت ضربة قوية للتنظيمات المتطرفة وعلى رأسها "القاعدة" التي تعد من أشد الرافضين للديمقراطية وأسلوب الحياة العصرية. هذا الإدراك يحتم على الغرب، كما تقول الكاتبة، مد يده لهؤلاء الشباب والتوقف عن الارتياب في مستقبل ثوراتهم فقط لأنها منغمسة في الثقافة المحلية بأبعادها الدينية المنفتحة. زهير الكساب ----- الكتاب: اهتزاز ساحة القصبة... الغضب والتمر في العالم الإسلامي المؤلفة: روبن رايتس الناشر: سيمون أند شوستر تاريخ النشر: 2011