لنقفز مع الزمن عشرين سنة إلى الأمام. نحن الآن في سنة 2031، ومنذ عشر سنوات مضت تتربع الصين على قمة النظام الدولي وتتصدر الأسواق وتقود طليعة الإبداع والاختراع، حيث تحتل "رقم 1" عالميّاً في مختلف المجالات: صناعة السيارات، الإنشاءات، الصناعات الثقيلة، الزراعة، التجارة الخارجية، الطاقة، وحتى الجهد البيئي، وغزو الفضاء، وصناعات الموجة الثالثة الرقمية، والإعلام والثقافة... إلخ، وهي ما زالت تسير، في هذه الأثناء، بخطوات واثقة مزهوة في طليعة عالم العصر الصيني، الذي تنتشر في أرجائه الأربعة "الدياسبورا" الهائلة من المهاجرين الصينيين عبر العالم البالغ عددهم 100 مليون، مكرسة بذلك زعامتها كقوة عظمى على المسرح الدولي، وخاصة أنها قد ازدادت أيضاً تمديُناً في داخل برها الرئيسي، وأخذت جرعة تحديث قوية، وعرفت نوعاً ما من الإصلاح الديمقراطي متناسباً مع "النموذج الصيني" وثقافته الخاصة. يومها سنجد أن الصين، أو "إمبراطورية الوسط" كما كانت تسمى قديماً، قد أصبحت فعلاً هي نقطة وسط العالم ومركزه، وأن قصة صعودها التي نراها الآن قد اكتملت وفق واحد من أكثر السيناريوهات إثارة وتشويقاً ورمزية، وأشدها دلالة على اكتمال حبائل إحدى مكائد التاريخ الإنساني، بعد أن أدركت دورة حضارية إنسانية كاملة غاياتها ونهاياتها المحتومة، فقد أزفت أخيراً أيام غروب شمس الغرب الأميركي- الأوروبي، وشروق شمس الشرق الصيني- الآسيوي من جديد. هذا باختصار شديد، وبقليل من التوسع في الاستنتاج والتأويل، هو مؤدى كتاب "الصين في عشرين سنة، وبقية العالم.. غداً، هل سنصبح كلنا صينيين؟"، الذي صدر مؤخراً لمؤلفه "بيير بيكار"، وهو عالم جيوبوليتيكا، وأحد أبرز المتخصصين في الشأن الصيني في بلاده، وفي أوروبا، بصفة عامة. وقد جاء كتاب "بيكار" هذا الآن في وقته المناسب تماماً لكي يلاقي أكبر نسبة من المقروئية -وربما أيضاً من المصداقية- حيث تعصف بالدول الأوروبية أزمات مالية واقتصادية طاحنة ما تزال فصولها جارية بأفق مفتوح، فيما تواجه الدول العربية من جانبها هي أيضاً موجة تحولات تاريخية مستمرة، وتبدي أميركا توجهاً محسوساً لإعادة ترتيب أوراقها الداخلية مطلقة علامات متواترة على نزوع متعاظم للانكفاء على الذات. في هذه الأثناء يلفت المؤلف الأنظار إلى حجم التحول الحاصل في توازنات القوة الاقتصادية -واستطراداً السياسية- على المسرح الدولي، مبرزاً التحديات والفرص التي يطرحها صعود الصين خلال السنوات المقبلة إلى مرتبة القوة الأعظم على مستوى الكوكب، لتتراجع أميركا إلى مرتبة القوة الثانية، وأوروبا إلى المرتبة الثالثة، هذا طبعاً دون إغفال المكانة المميزة التي ستشغلها القوى الدولية الأخرى البازغة مثل روسيا والهند والبرازيل. وينطلق "بيكار" في سفره الشيق من الحاضر إلى المستقبل منطلقاً من تسجيل بعض ما حققته الصين خلال الماضي القريب من اختراقات وإنجازات هائلة، حيث تحولت إلى ما يشبه ورشة العالم النابضة حيوية في مختلف الأنشطة الإنتاجية، وإلى خزان أمواله واستثماراته المتدفقة بشكل غير مسبوق في القارات الخمس. وهنا يستشرف الكاتب السيناريوهات الممكنة التي يتوقع أن يتأدى إليها هذا السيل الدافق من النجاحات الاقتصادية الصينية، مرجحاً أن تتكلل مسيرة صعود "الإمبراطورية الوسطى" إلى تصدر المشهد الدولي في كل شيء تقريباً، وعلى جميع الصعد الاقتصادية، والمالية، والديموغرافية، والثقافية، وأيضاً في مجالات التكنولوجيا والعلوم والابتكار. وفي غمرات الاستشهاد بالأدلة والإحصاءات تتحول غابة القصاصات والأرقام والنسب المئوية في اللوحة التي يرسمها الكاتب للمشهد الصيني والدولي عامة إلى ما يشبه خريطة معركة حقيقية، تربح الصين على رقعتها كل شيء، ويخسر منافسوها كل شيء أيضاً. فستنفجر المدن الصينية حيوية وتألقاً، وسيشهد قطاع الاتصالات، والمواصلات، هناك طفرة تجعله الأول عالميّاً، وستتحول الموانئ الصينية إلى عقدة مواصلات دولية لا تنافَس، وستعرف البحرية الصينية نموّاً تاريخيّاً بما لا يقاس إلى أية بحرية أخرى، وبشكل يضع حدّاً لتقليد امتد لعدة قرون حين كانت الصين تحجم عن التحول إلى قوة بحرية دولية. وأما تحول الصين إلى أكبر مستثمر دولي حينها فتحصيل حاصل لأن مقدماته بادية للعيان الآن، وإن كان المتوقع أن تركز مستقبلاً على الاستثمار في القطاع الزراعي من خلال شراء ملايين الهكتارات من الأراضي الخصبة في القارات الخمس. وبالمختصر المفيد، سيصبح حضور الصين الدولة والثقافة، حينها طاغيّاً ومحسوساً في كل مكان. وحينها أيضاً سنصبح كلنا صينيين، على نحو ما تساءل الكاتب في العنوان الفرعي، وشبه الرئيسي في الواقع، لكتابه. وهو سؤال يتكفل ما في الكتاب نفسه من أدلة وأرقام استشرافية بنزع علامة الاستفهام عنه، بثقة منهجية وبضمير مرتاح. ولعل آخر ما يمكن قوله ضمن هذه القراءة الموجزة هو أن كتاب "بيكار" قدم أطروحاته بطريقة متأنية وبكل جلَد العالم ومنهجية الباحث، مدعماً آراءه بالملاحظات الواقعية المحسوسة، والاستنتاجات الموضوعية الملموسة، المدعومة بلغة الأرقام الموثقة لا الأحكام المسبقة، ولذا جاء الكتاب سفراً ثريّاً بالمعلومات والاستنتاجات، وليس مجرد استشراف تذهني أو استبصار حدسي أو حتى ضرب من ضروب الخيال العلمي، أو انخراط ذميم في حملة "فوبيا الصين" المتفشية لدى بعض الأقلام الغربية اليمينية الرديئة. ومع هذا يلزم القول أيضاً إن الكتاب لم ينجُ كذلك من النقد حيث رأى البعض أن في تضاعيف منظومة فرضياته نوعاً من المصادرة أحياناً على المطلوب، كما أنه ركز فقط على أوجه القوة في الاقتصاد الصيني وجعلها رافعة لبقية قاطرات الصعود الأخرى الكثيرة كالقاطرات السياسية، والثقافية، والجغرافية البشرية، وغيرها. وفي سياق النقد ذاته قارن آخرون أيضاً بين مؤدى هذا الكتاب الناعي للمركزية والقيادة الغربية للنظام الدولي وبين كتاب "التحدي الياباني" الذي صدر منذ قرابة نصف قرن للمفكر الأميركي "هيرمان كان" وقد استشرف بذات المنطق الكابوسي سيناريو صعود اليابان إلى قوة عظمى تهمش الغرب، متوقعاً أن يتحقق ذلك سنة 2000، وكما نعلم جميعاً فإن ذلك لم يتحقق أصلاً، وربما لن يتحقق أبداً. فهل يتكرر ذلك مع الصين أيضاً، أم أن قصة صعودها تبدو مختلفة لأن لديها من إمكانيات تحدي الزعامة الغربية ما هو أكثر بكثير؟ هذا هو السؤال... الذي قد يلتمس فيه نصف الجواب. حسن ولد المختار الكتاب: الصين في عشرين سنة، وبقية العالم المؤلف: بيير بيكار الناشر: فافر تاريخ النشر: 2011