لعل الشيء الأغرب في السجال الأميركي حول السياسة الاقتصادية الوطنية، والذي يتركز حالياً على التساؤل حول ما إذا كان القانون الذي سينتج عنه رفع الحد الأعلى للإقراض، سيتم تمريره في الكونجرس أم لا... هو أن ذلك السجال يُجرى من دون مناقشة لأكبر بند في الميزانية على الإطلاق، وهو التكلفة الإجمالية للتدخلات العسكرية الأميركية في أفغانستان، وباكستان، والعراق، وليبيا، والصومال، وغيرها من المواقع على خارطة العالم غير الغربي، والتي تشمل أيضاً البرنامج العالمي للاغتيالات غير القانونية عن طريق الطائرات التي تطير من دون طيار، أو باستخدام فرق الاغتيال، والتي تتم جميعها تحت مسمى "الديمقراطية"! وإذا ما خصمنا تلك التكلفة، أو حتى تجاوزاتها الصارخة، فإن مشكلة الميزانية الأميركية التي نتحدث عنها ليل نهار سوف تختفي. بيد أننا نجد، بدلا من ذلك، أن السجال الدائر في الكونجرس والذي يبدو إيديولوجياً في المقام الأول ويدور بشكل سطحي حول السياسة الاقتصادية الوطنية، وهو سجال ملتزم تماماً بالموضوع الذي يمكن أن يعبر عنه بالسؤال: ما مستوى الضرائب الذي يجب أن تُطالب بدفعه الشريحة الأصغر، والأكثر ثراءً من بين السكان الأميركيين، مثل رؤساء مجالس إدارات الشركات والمؤسسات، ومديري البنوك والمؤسسات المالية الخاصة، والأثرياء بالوراثة، والمستفيدين من الأرباح السوقية الوفيرة وغير المتوقعة؟ والموضوع الثاني الأكثر إثارة في هذا السجال، هو الحد الذي ستذهب إليه الحكومة في تقليص برامج المعاشات والضمان الاجتماعي المعمول بها في الوقت الراهن، والتي يفترض أن يستفيد منها الأميركيون الذين ساهموا طيلة حياتهم فيما اعتبروه عقوداً غير قابلة للإلغاء مع الحكومة، بالإضافة لبرامج الرعاية الصحية المتواضعة القائمة الآن، والتي تستفيد منها الطبقة الوسطى، وكبار السن والمعسرون. وتشمل هذه البرامج أيضا برنامجي "ميدي كير" و"ميديك آيد"، بالإضافة لبرنامج الرعاية الصحية الجديد الذي تم تمريره بالكاد في الكونجرس من قبل إدارة أوباما، وهي في مجملها برامج تحولت بالفعل إلى "استحقاقات" للشعب الأميركي، رغم أن كلمة "استحقاق" تحديداً من الكلمات المكروهة في أدبيات السياسة الأميركية المعاصرة. وبعبارة أخرى، يمكننا القول بأن السجال الأميركي الداخلي يتركز حول السؤال: كم يمكن أن نسرق من الفقراء، وإلى أي حد يمكن أن نزيد ثروة الأثرياء؟ من الواضح أننا جيل لا يحمل أي شبه بالأجيال الأميركية التي نشأت وترعرعت في بيوت كان الإنجيل الكتاب الوحيد الذي يحتفظ به أفرادها، والذين كانوا يترددون بانتظام على كنائس يقف على منابرها يوم الأحد رجال دين يهددون العصاة بالويل والعذاب في الآخرة. كان الغرب مهموماً بالدين وما يتضمنه من ثواب للأبرار وعذاب للعصاة. وظل الحال هكذا حتى جلبت عصور الاستنارة الأوروبية ما يمكن تسميته "الوثنية الحديثة" متمثلة في "العقل الجديد". ومع ذلك، ظل الطمع القديم جزءاً من العصر الجديد، ولا يزال يحرك اقتصاداتنا وسياساتنا حتى الآن. وكان القرنان الثامن عشر والتاسع عشر قرنين ثوريين بامتياز، حيث شهدا الإطاحة بملكيات حاكمة، وأرستقراطيات، وكثير من بقايا النظام الإقطاعي... كما شهدا الثورة الفرنسية، واستقلال إيطاليا وتوحيدها، وتوحيد ألمانيا، وانحسار إمبراطوريتي "الهبسبورج" و"العثمانيين" وقلاقل البلقان، والحرب الأهلية الأميركية... وشهدا تحولا في روسيا نتج عنه انعتاق طبقة أقنان الأرض عام 1861، وحتى قبل أن يتم تحرير العبيد في الولايات المتحدة. إن غرض هذه الإطلالة السريعة على التاريخ، هو الوصول إلى خلاصة مؤداها أن تاريخ ما بعد الاستنارة الأوروبية كان مدفوعاً في المقام الأول بمطالب العدالة السياسية والاقتصادية. والفارق بين صراعات ما قبل الاستنارة الأوروبية وما بعدها، هو أن البحث الإنساني عن العدالة والمساواة كان في الحضارات الدينية المنتمية للماضي، يتركز على الفضيلة وثوابها في الجنة. أما بعد تقويض الدين في أوروبا عن طريق الاستنارة فإن المخططات الإنسانية، والعقائد، والأيديولوجيات، والصراعات حول العدالة... اقتصرت بالضرورة على الحياة الزمنية، أي على المدى الزمني للحياة التي يحياها أي إنسان في هذا العالم. كان رأي فلاسفة عصر الاستنارة أنه إذا لم يكن هناك إله، فإن العدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر هي التي يجب أن يسعى إليها الإنسان خلال وجوده في هذا العالم. وهكذا فالارستقراطيون الذين اعتبروا مسؤولين عن الحروب بين الملكيات والحروب الإمبريالية خلال تلك الفترة، ومسؤولين عن الحرب العالمية الأولى، بات من الواجب إبادتهم! وكانت هذه الأفكار هي المحرك للثورة الفرنسية، وغيرها من الثورات الأوروبية... كما كانت الدافع الأساسي للاشتراكية والشيوعية في رؤيتهما المثالية واليوتوبية بداية، ثم رؤيتهما العدمية بعد ذلك في روسيا اللينينية، و"الاشتراكية القومية" في ألمانيا، ثم في إسبانيا، بل وحتى في الصين الفقيرة والمُستغلة. في جميع هذه الثورات لجأت الشعوب إلى العنف تحت راية قادة خارجين من رحم الطبقات العاملة والوسطى في مختلف البلدان. كانت تلك الثورات بالطبع مثالية وأيديولوجية عندما بدأت. وهو الشيء الذي يعيدني لواشنطن 2011 حيث نجد جمهوريي الكونجرس، وديمقراطيي أوباما مشتبكين في صراع حول العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين، يعتبر هو الأشد ضرواة منذ الحرب الأهلية الأميركية. وهم جميعاً، الجمهوريون والديمقراطيون، ملتزمون في نفس الوقت، وبشكل أعمى، بما يمكن اعتباره حرباً عرقية دينية تخوضها أميركا خارج حدودها. وهم يبدون جهلاء، غير مبالين بما قادت إليه في الماضي مثل تلك الحروب غير المسؤولة. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تربيون ميديا سيرفس"