آن أوان المصارحة والمكاشفة. لم يعد يجدي ترديد عبارات التمجيد المستحقة لشباب ثورة 25 يناير، الذين خططوا ونفذوا أهم ثورة في القرن الحادي والعشرين. وهناك إجماع بين المراقبين العالميين، بالإضافة إلى الباحثين المصريين والعرب، على أن هذه الثورة أبدعت في صياغة مفهومها الرئيسي باعتبارها في المقام الأول ثورة سلمية، وفي شعاراتها التي رفعتها عن الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. نتحدث عن أهمية المصارحة والمكاشفة لأن صفوف الثوار اخترقتها جماعات لا هوية لها، وبعضها تحيط الشكوك والشبهات حول توجهاتها، مما يطرح أسئلة مهمة تتعلق بالجهات الداخلية أو الخارجية التي تدفعها إلى رفع شعارات خطيرة، أو تبني قرارات تمس الأمن القومي في الصميم. حين ترتفع شعارات تهاجم المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي احتضن الثورة منذ لحظاتها الأولى، وحمى صدور الثوار، وضغط على الرئيس السابق حتى يتنحى، وجنب البلاد وقوع صراع دموي بين الجيش والشعب، فمعنى ذلك أن هناك قوى سياسية تريد دفع البلاد إلى حالة الفوضى الشاملة. وليس معنى ذلك أننا نعتبر المجلس الأعلى للقوات المسلحة كياناً مقدساً لا يجوز المساس به، ولكننا -على وجه التحديد- نؤمن إيماناً مطلقاً بشرعية توجيه النقد السياسي المسؤول لبعض قرارات المجلس، سعياً وراء ترشيد المسار في المرحلة الانتقالية الحرجة التي تمر بها مصر، قبل تسليم المجلس السلطة لمجلس الشعب المنتخب وكذلك مجلس الشورى وبعد ذلك لرئيس الجمهورية المنتخب. وهذا النقد السياسي المشروع شيء، أما المطالبة بإسقاط المجلس الأعلى للقوات المسلحة فهي شيء آخر. لأن الدعوة إلى تشكيل مجلس رئاسي مدني يضم عنصراً عسكريّاً كما اقترحت بعض الجماعات المضللة من بين شباب الثوار، معناه بكل بساطة دفع البلاد إلى فوضى سياسية عارمة، لأن الصراع لابد له أن يثور بين مختلف التيارات السياسية التي سيتصارع أنصارها حول من سيكونون أعضاء في المجلس الرئاسي المقترح. وسيحاول البعض أن يزج بأسماء بعض الشخصيات العامة التي قفزت على الثورة، وزعمت زوراً وبطلاناً أنها من بين قياداتها، ولذلك هم يتصدرون المشهد الإعلامي، ويزعمون أنهم هم وحدهم الذين يتحدثون بلسان الثورة. وإذا تركنا جانباً هذه الشعارات والهتافات غير المسؤولة التي من شأنها أن تحدث فرقة بين القوات المسلحة والشعب، ونظرنا إلى بعض الدعوات لمنع الملاحة في قناة السويس، فإننا نجد أنفسنا أمام اعتداء خطير على الأمن القومي لمصر. ولا يشفع في هذه الدعوات الغوغائية الجهل العميق بالتاريخ المصري، الذي كانت فيه السيطرة الوطنية على قناة السويس هي عنوان "الاستقلال". بل إن حروب مصر وأقربها العدوان الثلاثي عام 1956 الذي تآمرت فيه كل من "إسرائيل وفرنسا وإنجلترا" لغزو مصر عسكريّاً، لم يكن إلا رد فعل استعماريّاً على قرار عبدالناصر تأميم قناة السويس. ويمكن القول إن أحد أهداف إسرائيل من العدوان العسكري على مصر عام 1967 كان بغرض السيطرة على قناة السويس وإخضاعها للسلطة الإسرائيلية. ولذلك حين تأتي مجموعات تحد من الشباب تدعي أنها من الثوار ولا تدعو فقط وإنما تحاول فعلاً تعويق الملاحة في القناة، فذلك يمكن بكل المعايير اعتباره أقرب ما يكون إلى جريمة الخيانة العظمى. وأنا لا أتحدث هنا عن الخسائر الاقتصادية الباهظة التي ستصيب الاقتصاد المصري لو حدث اضطراب في عملية مرور السفن في قناة السويس، ولكن -والأهم من ذلك- أتحدث عن التهديد المباشر للأمن القومي المصري، لأن هذا سيستدعي تدخلاً من القوى الأجنبية، مما يؤثر مباشرة على سيادة الدولة المصرية. ومما يدل على جهالة وحماقة بعض الشباب الذين يدعون أنهم ينتمون إلى الثوار، الحديث الذي أدلى به صحفي مصري شاب في أحد برامج القنوات الفضائية حين قرر بكل رعونة، أن الهدف من منع الملاحة في قناة السويس هو أن يحدث تدخل أجنبي، مما يؤدي إلى الضغط على المجلس الأعلى للقوات المسلحة حتى يرضخ لمطالب الثوار الآن وفوراً! وقد كان أمراً مثيراً للدهشة أن هذا الصحفي المفترض فيه أن يعرف تاريخ بلاده جيداً، وأن يدرك ماذا يعني الأمن القومي، يندفع هكذا ليتبنى هذه الآراء الطائشة، بل إنه في حوار دخله مع قائد الجيش الثالث في منطقة القناة الذي فض عملية قطع الطريق بين العين السخنة والقاهرة انتقد فض هذا الاعتصام بالقوة! مع أن الشرطة العسكرية تفاوضت ساعات طويلة مع من قطعوا الطريق ورفضوا، فلم يكن هناك مفر من فض الاعتصام بالقوة. ولعلنا نتساءل ما هي شرعية قطع الطرق باسم الثورة ومطالب الثورة؟ أليس في ذلك تعطيلاً لمصالح الناس، وممارسة نوع من أنواع "البلطجة" بدعوى الضغط على المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحكومة عصام شرف، لتنفيذ مطالب الثوار فوراً؟ وكيف يمكن تبرير إغلاق شباب الثوار في ميدان التحرير للمجمع، الذي يتوافد عليه لإنهاء مصالحهم الضرورية عشرات الآلاف من المواطنين الذين يفدون إليه من كل بلاد القطر. أليس في ذلك عدواناً على مصالح الشعب وتهديداً لأمنه؟ ومن أعطى شباب الثوار في ميدان التحرير الحق في إغلاق الطرق ومنع السيارات من المرور، بشكل يزيد من ارتباك المرور في كل أنحاء العاصمة، مما يؤدي إلى تعطيل مصالح الناس؟ بكل صراحة نقول إن جماعات شباب الثوار التي تبالغ مبالغة شديدة في رفع شعارات تضر بالأمن القومي للدولة، وتصيب مصالح الناس بالضرر، من شأن سلوكها إحداث فجوة بين الأهداف السامية لثورة 25 يناير، وبين الشعب الذي أيدها منذ أول لحظة، ومنحها صفة الثورة بعد أن كانت مجرد مظاهرة حاشدة، أو على الأكثر انتفاضة ثورية. على ائتلافات الثورة التي أصبحت بالعشرات أو بالمئات، بحيث أصبح من الصعب التمييز بين الثوار الحقيقيين الذين خرجوا في 25 يناير والثوار المزيفين الذين ركبوا موجة الثورة، ويحترفون الآن الإساءة إليها كل يوم، أن تراجع نفسها قبل أن يحدث الفراق الحتمي بينها وبين الشعب. ومن ناحية أخرى على هذه الائتلافات أن تعرف أن محاولات الاعتداء على الأمن القومي، أو القفز على السلطة كما عبر عن ذلك بكل وضوح وحسم وقوة بيان المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ستقابل من الشعب أولاً ومن القوات المسلحة ثانيّاً بأكبر قدر من الحسم. غير أن ترشيد سلوك شباب الثوار يقتضي من كبار المثقفين الذين ساندوا الثورة منذ البداية، أن يصارحوهم بأنهم في الواقع يلعبون بالنار، لأن ورقة المطالب التي لا تنتهي لا يمكن أن تكون مبرراً للإضرار بأمن الدولة أو سلامة الوطن.