لم يتخيل أوباما، عندما دخل البيت الأبيض ظافراً في لحظة تحول تاريخي في الولايات المتحدة، أنه سيجد نفسه في مأزق كالذي يواجهه اليوم في منطقة الشرق الأوسط. كانت هذه المنطقة بين أولوياته. منحها عناية قصوى منذ اللحظة الأولى. وتطلع إلى إنجاز سلام فيها يكرَّس حضوره في التاريخ الذي كان على موعد معه كأول رئيس أسمر للدولة التي أقيمت أصلا على التمييز العرقي. لكنه يخشى الآن أن تخرجه هذه المنطقة من التاريخ الذي حلم بأن تكون هي مدخله إلى الخلود فيه. فهذه هي المرة الأولى التي تبدو فيها الولايات المتحدة عاجزة عن تحديد الاتجاه الذي يحافظ على مصالحها في إحدى أكثر المناطق أهمية بالنسبة إليها منذ أن أصبحت قوة عظمى وصارت اللاعب الدولي الرئيسي فيها. وهي، أيضاً، المرة الأولى التي يقف فيها رئيس أميركي عاجزاً عن إرضاء أحد في الشرق الأوسط. فلا إسرائيل راضية عن سياسته فيها، ولا العرب وجدوا شيئاً مما وعد به في أشهر حكمه الأولى، خصوصاً في خطابه إلى العالم الإسلامي من جامعة القاهرة في 4 يونيو 2009. كما أن ارتباكه وإدارته تجاه الاحتجاجات التي حدثت ولا تزال في عدد من البلاد العربية، قد يضعف ثقة حكومات بعضها الآخر في جدوى الصداقة مع الولايات المتحدة، في الوقت الذي لم يكسب تعاطف الشعوب في هذه أو تلك. وهكذا يواجه أوباما مأزقاً مزدوجاً بين العرب وإسرائيل من ناحية، وبين شعوب البلاد العربية وحكومات بعضها من ناحية أخرى. فلا يخفى أن حكومة نتنياهو تتعامل مع الرئيس الأميركي باعتباره خصماً محتملاً من وجهة نظرها وليس بوصفه حليفاً أكيداً. وهي تعبر في موقفها هذا عن تيار غالب في المجتمع الإسرائيلي الذي يزداد انعطافه نحو اليمين يوماً بعد آخر منذ حوالي عشرة أعوام. ويبدو بعض أنصار إسرائيل الأشداء في الولايات المتحدة أكثر صراحة وحدة في التعبير عن عدم الرضا تجاه أوباما وإدارته وسياسته. وقد ذهب جون بولتون، المندوب الأميركي السابق في الأمم المتحدة، إلى أقصى مدى في التعبير عن هذا الاتجاه عندما وصف أوباما بأنه "أكثر الرؤساء الأميركيين معاداة لإسرائيل". ورغم أن هذا الوصف الذي جاء في حوار أجرته معه صحيفة "جيروزاليم بوست"، يبدو متجاوزاً حدود العقل والمعقول، فقد استخدمه بولتون في سياق مقارنته بسابقيه وخصوصاً بوش الابن. وعندما نشرت الصحيفة الإسرائيلية هذه المقابلة مع بولتون، كانت لجنة متابعة مبادرة السلام التابعة لجامعة الدول العربية مجتمعة في الدوحة لبحث التوجه إلى الأمم المتحدة وسبل دعم طلب الاعتراف بدولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية، والتحرك لتقديم طلب العضوية الكاملة لهذه الدولة في المنظمة الدولية. ويضع البيان الذي أصدرته اللجنة يوم الخميس الماضي الرئيس أوباما في موقف شديد الحرج أمام العرب مرة أخرى. فإذا حصل الطلب الفلسطيني على أغلبية كبيرة في الجمعية العامة للأمم المتحدة ثم عُرض على مجلس الأمن مدعَّماً بهذه الأغلبية، سيكون أوباما في موقف لا يُحسد عليه. ويتجسد مأزقه، هنا، في أن استخدام حق النقض لمنع الاعتراف بالدولة الفلسطينية ومنحها العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، بعد أشهر قليلة من دعمه استقلال جنوب السودان، سيجسد ازدواجية مقيتة في المعايير. لكن معضلة أوباما الأكبر هنا هي أن استخدام "الفيتو" ضد الاعتراف بالدولة الفلسطينية يزيد العرب استياءً، لكنه لا يكفي لمنحه الرضا الإسرائيلي المفقود. وهذه هي أيضاً المعضلة التي تواجهه إزاء الشعوب والحكومات في بعض بلاد العالم العربي الذي فاجأه بما لم يحسب له حساباً حين دخل البيت الأبيض وخلال نصف ولايته الأولى. فما أن اقترب أوباما من إكمال عامه الرئاسي الثاني حتى فوجئ بتحولات داخلية في بعض البلاد العربية تفرض عليه التعامل مع واقع جديد لا يعرفه ولم يتوقعه أيٌ من أجهزة استخباراته ولا مراكز التفكير التي تحفل بها بلاده. كانت المفاجأة أكبر من أن يمكن استيعابها، ولا تزال. ظهر موقف أوباما وإدارته مرتبكاً تجاه الاحتجاجات التي بدأت في تونس. واشتد الارتباك عندما حدثت الاحتجاجات في مصر إلى حد أن موقف أوباما وإدارته تغير أربع مرات خلال 17 يوماً فقط (من 25 يناير إلى 10 فبراير). فقد بدأ واثقاً في استقرار نظام "مبارك"، ثم تحول بعد أقل من أسبوع إلى المطالبة برحيله فوراً، لكنه تراجع بعد أيام قليلة مفضلا بقاءه لبعض الوقت من أجل إجراء تعديلات دستورية لابد أن يوقَّعها، ثم تغير مرة رابعة إلى الإصرار على تنحيه في النهاية. وإذا كانت ممارسات القذافي ونظامه وصورته السلبية على المستوى العربي والدولي ساعدت أوباما وإدارته في حسم موقفه بسرعة باتجاه الانحياز إلى الشعب الليبي، فلم يكن الأمر كذلك في اليمن وسوريا. فلا يزال الموقف الأميركي تجاه الأحداث المشتعلة في البلدين متأرجحاً ومذبذباً حتى بعد إعلان أوباما في نهاية الأسبوع الماضي أن الرئيس الأسد "خسر شرعيته في نظر شعبه وأهدر الفرصة تلو الأخرى للقيام بإصلاح حقيقي". ومع ذلك لم يكن مفهوماً المعنى السياسي المحدد لكلامه عن "إبقاء الضغوط على النظام السوري بشكل متزايد"، مثلما لم يفهم أحد خلال الأشهر الماضية منطق سياسته تجاه دمشق لأسباب في مقدمتها تذبذب خطابه السياسي. وما هذا الخطاب الذي يفتقد وضوحاً كافيا إلا تعبير عن مأزق أوباما وإدارته إزاء تحولات لم يستعد لها، وعجزه عن اتخاذ موقف حاسم إزاءها. فهو لا يستطيع الانحياز إلى نظام لم يكن راضياً عنه قبل أن تتصاعد الاحتجاجات ضده، لكنه لا يثق في نجاح المحتجين في تحقيق أهدافهم ولا في اتجاهات النظام الجديد أو البديل. وربما يفسر ذلك، بشكل أو بآخر موقفه تجاه الأزمة في اليمن أيضاً. فلم يحسم أوباما أمره بشكل نهائي تجاه هذه الأزمة رغم الفراغ الرئاسي المستمر منذ نحو شهر، الأمر الذي يثير استياء المعارضة اليمنية. فلم يعد لمطالبة أوباما بنقل السلطة معنى بدون دعم حقيقي لمبادرة مجلس التعاون الخليجي، وإقناع الرئيس بالتنحي لنائبه وإنهاء سيطرة أسرته على مفاتيح السلطة وإجراء انتخابات رئاسية ونيابية. فلا يزال الدعم الأميركي لهذه المبادرة كلامياً على نحو يخيب آمال اليمنيين الذين أنهكتهم الأزمة ويؤثر سلبياً على الوضع في المنطقة. وهكذا يبدو أوباما في مأزقه المزدوج اليوم، بعد عامين ونصف العام على رأس الدولة العظمى الأولى، أبعد ما يكون عن التوقعات التي واكبت دخوله البيت الأبيض حاملاً أمالاً عريضة لبلاده وللعالم.