رحب كانط، فيلسوف التنوير الألماني، بالثورة الفرنسية عام 1789، وحين نقلت له صور الرعب والرؤوس المتطايرة على المقصلة، قال: "إن كل هذه الفظاعات لا تقترب بشيء من استمرار الطغيان ليوم واحد!". وما نشاهده في صيف عام 2011، يعني ولادة الروح وتهاوي قوانين الفيزياء، فحين يتقدم الشاب ليموت، لا مجال هنا للغريزة، بل تفوّق الروح على الجسد. إنها أسطورة تتحدث عن بعد جديد للإنسان حيث يتدفق الحديث عن جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. وفي سورة البروج، نرى المجرمين يحرقون المؤمنين (وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود* وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد). وكان بلال رضي الله عنه حين توضع الصخرة العظيمة على صدره في حر مكة كي يرتد ويكفر، يردد: أحد، أحد، أحد. وعن ذلك، يقول مالك بن نبي إنه لا مجال للحديث عن قوانين الفيزياء والبيولوجيا، بل قوانين الروح فقط. ومن فكرة الروح ينطلق إلى فكرة الحضارة، فيقول إن الحضارة هي ولادة الروح، وإن مخطط الحضارة الإسلامية بدأ من الروح وهبط مع انفلات الغرائز. ولعلنا اليوم شهود على أمر هام في التاريخ العربي الحديث، قد يدفع العرب مجدداً إلى مسرح التاريخ، وربما لم يحدث مثيل له منذ بعثة الإسلام الأولى. روح النبوة تنبثق من جديد، الروح مقابل الرصاص، الدم يغلب السيف، والإرادة تكسر السلاح. إنه عصر جديد ترتفع فيه الروح فوق أسار المادة، ويشعر الناس بالحرية كما لم يشعروا بها من قبل! وطالما ولدت الإرادة فقد أشرقت نور الروح. ربما لا ينتبه المؤرخون إلى سر ولادة الفلسفة في بلاد اليونان، وقد حامت الظنون حول أسباب كثيرة، لكن أهمها ولادة الروح محررة من القوة، فقد غزا كزركسيس الفارسي بلاد اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد وعبر الهلسبونت (مضيق الدردنيل) بنصف مليون جندي، وهناك انحدرت دمعة من عينه فتعجب عمه أرطبانوس وسأله، فأجاب: بعد مائة عام لن يبق أحد على قيد الحياة من كل هؤلاء! في الواقع كان يبكي على نفسه ومصيره. وفي القرآن الكريم تعبير جميل: "هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط". أتذكر تلك الآية كلما رأيت منظراً لـ"الشبيحة" أو "البلاطجة". وفعلا، فقد هزمت فارس أمام ثلة من اليونان الأحرار، وولدت الفلسفة اليونانية مستفتحة بسقراط، ثم أكاديمية أفلاطون، فمقولات أرسطو وموسوعته في الطبيعة. أرسلت أثينا اثنين من رجالها المتطوعين إلى فارس تقول إنها تكفّر عن ذنبها في قتل الرسل، فلتفعل فارس ما تشاء بهذين الحرين المتطوعين. جاءت هذه القصة في كتاب "العبودية المختارة" لأتيين دي لابواسييه، وهو يشرح عمل آلة الطغيان الجهنمية، وكانت فارس قد أرسلت الرسل في حملة كزركسيس تدعو أثينا إلى تقبل الماء والطين كناية عن الاستسلام الكامل، فضحكت أثينا وقتلت الرسل، ثم راجعت نفسها وأرسلت التعويض بعد انتصارها الرائع ضد طاغية فارس الذي أغرق السفن برجالها في البحر لأنهم هزموا في معركة سلاميس! وصل الرجلان إلى حدود فارس فأكرمهما الحاكم، ثم قال لهما ما رأيكما في أن تصبحا عبدين لسيدي الملك؟ نظر الأثينيان بابتسامة وقالا له لأنك لم تذق طعم الحرية، ولو ذقتها لقاتلت عنها بأظفارك وأسنانك!