معظم علماء التاريخ كتبوا أن العمارة تجسد قوة الدولة وهيبتها، ونرى هذه الرمزية في العديد من الأقطار الإسلامية والعربية، منها ما يحمل مضموناً حضاريّاً ومعماريّاً صرفاً، ومنها ما شيد للدلالة على مكنون سلطوي سياسي، وبين الصنفين عمائر ذات دلالات متعددة. وكتابات الدكتور خالد عزب دالة على ذلك لمن أراد أن يغوص في عالم الرمزيات المعمارية؛ فقبة الصخرة مثلًا والحرم القدسي الشريف حولهما أبرز العمائر التي تحمل في طياتها مضامين حضارية؛ ويرجع تشييد القبة إلى العصر الأموي حيث تبنى عبدالملك بن مروان مشروعاً من أكبر سماته حمولته السياسية الدينية الحضارية، وقد ارتكزت على الاهتمام بعمارة الحرم القدسي الشريف لارتباطه بالتاريخ والعقيدة الإسلاميين؛ فهو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومنه كان الإسراء والمعراج؛ ولما كانت عمارة الحرم في وقت الأمويين تتناغم مع ما يدور حولها من كنائس، خاصة كنيسة القيامة المقدسة لدى المسيحيين، ولرغبة عبدالملك بن مروان في تثبيت وتأصيل الهوية الحضارية الجديدة للمدينة، تفنن في مشروع عمارة قبة الصخرة والمسجد الأقصى، وهو أول عمل معماري متجذر في عظمته، يرى من مسافات بعيدة شامخة في الهواء في مركز الحرم القدسي وروعيت في التخطيط سهولة الطواف حولها للتبرك. ونرى مثل هذه الرمزية في عمائر القاهرة حين اختار السلطان الكامل الأيوبي تشييد دار الحديث الكاملية في القاهرة الفاطمية، ليأتي السلطان المنصور قلاوون ليشيد على بقايا القصر الغربي الفاطمي منشأة، وبيمارستان (وهو لفظ فارسي مركب من بيمار أي مريض وستان بمعنى محل) لتوفير العلاج للمصريين. وكان إخفاء المبنى خلف الضريح والمدرسة له هدف سياسي مدروس، فلن يستطيع أي شخص استخدام البيمارستان دون المرور على الضريح والمدرسة. ولكل هذا العمران طابع سياسي رمزي يعبر عن قوة العصر ولتدشين بداية حكم أسرته لمصر وبلاد الشام. ولذا نجد المقريزي شيخ مؤرخي مصر المملوكية يستعير أبياتاً من الشعر للتعبير عن ذلك. وقد أصبح الضريح معلماً بارزاً من معالم السلطة السياسية ورمزيتها ليصبح أحد مخافر السلطة، ونرى أوج هذه الرمزية في ضريح تاج محل في الهند حيث يقع الضريح على الضفة اليسرى من نهر "جمنا"، والضريح من النوع المعروف بأضرحة الحدائق تتقدمه حديقة ضخمة بها حوض ماء تنعكس فيه صورة المبنى نفسه. كما أن القبة كمفردة معمارية ظهرت في صورة تحد حضاري تبناه العثمانيون عندما أرادوا التفوق على آيا صوفيا عند فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح وأمره بالصلاة فيها، فاتخذوا منذ ذلك الوقت القبة المركزية رمزاً للدولة العثمانية والدين الإسلامي بينما تمثل القباب الأصغر الأقاليم والولايات التابعة لها. ثم إن المرحوم الملك الحسن الثاني عندما بنى مسجده الكبير على الماء في الدار البيضاء، فإنما أراد من ذلك أن يخاطب الحس التاريخي لدى المواطن المغربي الذي يرى في تاريخ فاس ومكناس ومراكش والحضارة الأندلسية والعربية مترادفات من هذا الفن وذاك، تذكر بأصالة التاريخ العمراني المغربي والعربي. انتابتني هذه المشاعر وأنا أزور للمرة الثالثة بناية مقر الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي في مدينة الكويت، وهي بناية في غاية الجمال تستنطق بصورة غير مباشرة التاريخ والحضارة وفن العمارة في وجدان المواطن العربي؛ ورئيسها الدكتور عبداللطيف يوسف الحمد الذي وقف على التخطيط والبناء بنفسه، ليس بسياسي يريد أن يعطي مضموناً سياسيّاً سلطويّاً للبناية، وإنما أراد أن يبلور من خلال البناء الثراء المعماري العربي والإسلامي بمختلف أنواعه وشمائله؛ ولم يبق كنز معماري عربي إلا وجسد في داخل هذا المكعب الضخم من الجرانيت، بدءاً من الصيصان المزخرفة بنقوش عربية (الأرابيسك) التي تخفي أنظمة الري المائية الحديثة، مروراً بالأسقف الخشبية المحفورة التي تذكرنا بالعصر المملوكي، ونظام الإضاءة الذي يضيء المبنى من الداخل والخارج، وانتهاء برؤية جمالية الخصوصيات المعمارية لكل قطر عربي بما فيها الفسيفساء الجدارية المغربية ونقشها الهندسي الرائع، وفلسفة الفناء الداخلي ليكون بمنزلة حديقة مثالية تجمع معالم الخضرة والماء. وكل متتبع حصيف لبهو الصندوق يمكن أن يستحضر في ذهنه "بهو السباع" بقصر الحمراء حيث شيد في وسط نافورة كبيرة من الرخام محمولة على ظهر اثني عشر أسداً يندفع الماء العذب من أفواهها إلى أربع قنوات مائية تقسم هذه الحديقة إلى أربعة أجزاء. ويمكننا القول إن التصميم الهندسي لبناية الصندوق العربي له جذوره المستوحاة من هذه الأجواء التي تجعله واحة من الهدوء والسكينة وعاصمة لتحالف الحضارات والتنوع الثقافي، فهي مدينة إسبان قرطبة وعرب القيروان، وهي فاس الأندلسية وتونس القيروانية ومصر العريقة وسوريا العثمانية، اجتمعت فنونها كلها لتعطي هذا الكنز المعماري المكعب جماله الذي يصعب وصف سحره الباطني. ولكن خلف الإصغاء لإيقاع الحياة الروحية والعقلية والمعمارية للصندوق في تناغم مع مهمته الاقتصادية والتنموية في وطننا العربي رأيت أن هذا البناء ليس فقط لغة للحوار الحضاري أو قطباً حضاريّاً، باعتبار الحضارة نظاماً مزدوجاً يستهدف الرقي بالحياة المادية والحياة الروحية على السواء، وإنما يجسد لغة لإعمال العقل واستحضار قوة الإنسان العربي، وتسخير ذلك التراكم الحضاري والثقافي في خدمة المسيرة البشرية للعالم العربي، بما فيها المسيرة السياسية التي تعثرت في العديد من الأوطان العربية.