احتفلت جمهورية جنوب السودان بإعلان استقلالها في التاسع من شهر يوليو الجاري، تحت شمس لاهبة، وأمام النظرات الفاحصة لتمثال الدكتور "جون جارانج دو مبيور" الذي قاد كفاح الجنوب من أجل الاستقلال خلال حرب استمرت سبع عشرة سنة تقريباً، وأسفرت عن مصرع مئات الآلاف. وتلك الحرب انتهت، كما هو معروف، بتوقيع اتفاقية السلام الشامل عام 2005 التي تمثل انتصاراً نادراً للغاية للجهود الدبلوماسية الدولية الرامية لحل صراع كان يبدو عصيّاً على الحل، وقد قدمت درساً بليغاً لكيفية التعامل مع ما كان يمكن أن يكون فترة حرجة بين الشمال والجنوب، في الشهور والسنوات التي تلت التوصل للاتفاقية. وقد لعبت الولايات المتحدة على وجه الخصوص دوراً حيويّاً سواء قبل التوصل للاتفاقية، أو أثناء المفاوضات التي دارت للتوصل إليها، وفي الفترة التي أعقبت ذلك أيضاً. وهناك ثلاثة من عناصر التدخل الدبلوماسي الأميركي كانت ضرورية للغاية لتحقيق النجاح، ولذا فإنها يمكن أن تمثل دروساً حيوية في أية مبادرات مستقبلية رامية لتخفيف وحل أي صراع جديد. العنصر الأول: نجح الاهتمام المستمر، وعالي المستوى، من قبل الحزبين الرئيسين، وعلى امتداد عدة إدارات أميركية، في المحافظة على زخم المفاوضات الجارية بين طرفي النزاع الرئيسيين في السودان، وصولًا إلى اتفاقية السلام الشامل والاتفاقيات التالية لها والإجراءات الخاصة بوضعها موضع التنفيذ. وهذا الاهتمام ساعد أيضاً على ضمان تخصيص الموارد الأميركية الضخمة المخصصة لرعاية وتعزيز السلام، وقد تضمن ذلك تخصيص عدة مليارات من الدولارات لعمليات الإعمار والتطوير والمساعدة الإنسانية، كما لعب الدعم الذي قدمه الكونجرس وروح القيادة التي أظهرها، دوراً في غاية الأهمية في ضمان النجاح لكافة تلك الجهود. العنصر الثاني: دخلت الولايات المتحدة العملية السياسية وهي تمتلك في يديها ورقة التأثير والنفوذ على الطرفين المعنيين. فعلى سبيل المثال، استغلت إدارة بوش خشية حكومة السودان من احتمال تدخل الولايات المتحدة عسكريّاً في أراضيه كرد فعل على هجمات الحادي عشر من سبتمبر، على أساس أنه مصنف أميركياً على قائمة الدول الراعية للإرهاب لاحتضانه بن لادن خلال الجزء الأكبر من عقد التسعينيات من القرن الماضي. وفي ذلك الوقت، صممت الإدارة الأميركية على أن أي تغيير في موقفها تجاه السودان يتوقف على مدى التقدم المتحقق في مفاوضات السلام. في مقابل ذلك، ساعدت الجهود التي استمرت لعقود لرفع المعاناة الإنسانية المترتبة على الحرب في بناء روابط قوية بين حكومة الولايات المتحدة، ومنظمات الإغاثة الأميركية، والحركة الشعبية لتحرير السودان صانعة استقلال السودان الجنوبي، وهي روابط لعبت دوراً في غاية الأهمية في تسهيل التسويات والتوافقات التي جعلت اتفاقية السلام الشامل أمراً ممكناً في نهاية المطاف. العنصر الثالث: نجحت الولايات المتحدة في تجسيد نمط البراجماتية السياسية المطلوب دائماً للتعامل مع الصراعات العصية على الحل. ومع أنه كانت هنالك الفظائع التي ارتكبتها الحركة الشعبية لتحرير السودان، والفظائع التي ارتكبتها الأنظمة المتوالية في الخرطوم، إلا أن الشيء الذي لا خلاف عليه هو أن الطرفين معاً يتحملان المسؤولية عما سال من دماء غزيرة. ومع ذلك كانت الولايات المتحدة قادرة ببراجماتيتها على إقناع الطرفين بالتفاوض، للتوصل إلى اتفاقية من أجل سلام أطول مدى. ولاشك أن إدارة أوباما ستحسن صنعاً إذا ما أخذت هذه الدروس في اعتبارها في الوقت الراهن، بعد انتهاء صخب احتفالات الاستقلال وخفوت أضوائها. فبالإضافة إلى التحديات الواضحة المتعلقة بدعم جهود التنمية في دولة جنوب السودان -التي تضم مساحات شاسعة من الأراضي غير خاضعة للحكومة حتى خلال فترة الحكم الاستعماري التي تفتقر إلى أبسط مقومات البنية التحتية- ستكون هناك حاجة ماسة لعضلات أميركا الدبلوماسية لمعالجة العنف، الذي تختمر أسبابه على امتداد الحدود الجديدة الفاصلة بين دولتي الجنوب والشمال في الوقت الراهن. وحتى في الوقت الذي كان فيه البشير رئيس السودان الشمالي يحضر احتفالات الجنوب بإعلان استقلاله في عاصمته جوبا، أفادت مصادر منظمات الأمم المتحدة العاملة في السودان أن جيش الشمال كان يقصف منطقة جنوب كردفان، وهي ولاية شمالية تتاخم جنوب السودان، جرى منحها وضعاً خاصّاً بموجب اتفاقية السلام الشامل. يذكر أن سكان تلك الولاية من النوبيين كانوا يقفون إلى حد كبير مع الجيش الشعبي لتحرير السودان خلال الحرب الأهلية، بسبب ما كانوا يشعرون به من تهميش من قبل الحكومات المركزية المتعاقبة في الخرطوم. ووفقاً لبنود اتفاقية السلام الشامل كان من المقرر عقد "مشاورات شعبية" في ولايتي "جنوب كردفان"، و"النيل الأزرق" -وهي ولاية أخرى شمالية لها ارتباطات مماثلة بالجنوب- من أجل تحديد وضعهما داخل السودان الشمالي. وفي الوقت الراهن الذي يتركز فيه الاهتمام الدبلوماسي على استقلال جنوب السودان، وعلى الأضرار الفادحة التي لحقت بمدينة "أبيي" الحدودية المتنازع عليها بين الشمال والجنوب، بسبب القتال العرقي الذي اندلع في هذه المدينة في وقت سابق هذا العام، والاشتباكات التي حدثت في الآونة الأخيرة بين قوات الشمال وقوات الجنوب، فإن الولايات المتحدة مطالبة من جديد بقيادة المجتمع الدولي بما في ذلك الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، من أجل معالجة المشكلات الأمنية المتجددة على نطاق واسع في السودان. ذلك أن الولايات المتحدة، إذا ما تجاهلت الأسباب التي أدت إلى نجاحها في السابق والتي يمكن أن تؤدي إلى نجاحها في الحاضر أيضاً ستكون قد أضاعت لحظة تاريخية بالنسبة لهذه الأرض التي شهدت فترات طويلة من الألم والمعاناة عبر تاريخها المرير. بيتون نوبف زميل بمجلس العلاقات الخارجية الأميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"