كما سبق وأن أشرت في أحد المقالات السابقة على هذه الصفحة فإن حركة التغيير الراهنة في الوطن العربي تشكل مأزقاً للجامعة العربية بأكثر من معنى. رأينا بدايات المأزق عندما اتخذت الجامعة رسمياً موقفاً صريحاً مما يجري في ليبيا ينحاز إلى الثوار ضد النظام القائم. وقد سهَّلت من هذا الموقف علاقات ليبيا الرسمية السيئة بعديد من الأقطار العربية، وقرب نهاية مدة ولاية الأمين العام السابق. ولاشك أن الاعتبارات الحقوقية والأخلاقية قد أملت على الجامعة هذا الموقف، ولكن ثمة ملاحظات قد تكون صادمة غير أنها تعبر عن طبيعة الجامعة، فليس من عادة الجامعة أن تتدخل أصلاً في الشؤون الداخلية لأي بلد عربي، إذ أنها جامعة "حكومات". وبالإضافة إلى ذلك فإن موافقة الجامعة على التدخل الخارجي لحماية الشعب الليبي وإن وجدت صدى طيباً لدى الثوار إلا أنه لابد من ملاحظة أن التدخل طُلِب من مجلس الأمن، ومن ثم فقد خرجت إدارته تماماً عن الأيدي العربية بعد أن انتهى به الأمر إلى حلف "الناتو". وقد أحدث ذلك الموقف شرخاً هائلاً في العلاقة بين الجامعة والنظام الليبي، وتحفظت عليه كل من سوريا والجزائر في إشارة مبكرة للانشقاق الذي يمكن أن يصيب الجامعة إن واصلت هذا النهج. ولم يسبق للجامعة على مدار عمرها الذي يقترب من السبعين عاماً أن تدخلت في شأن داخلي عربي إلا لتقصي الحقائق بناءً على دعوة من الطرف الموجود في السلطة، كما فعل ثوار اليمن في 1948 حين طلبوا ذلك من الجامعة للتحقق من التدخل الخارجي الذي يحاول إجهاض الثورة، ولم يتمكن وفد الجامعة من الوصول إلى اليمن أصلاً ناهيك عن أن الثورة سرعان ما تمت تصفيتها، أو لترتيب تسوية في حرب أهلية أو نزاع داخلي بموافقة السلطات الرسمية، وليس الانحياز إلى أحد هذه الأطراف، كما حدث في كل من لبنان إبان الحرب الأهلية التي بدأت في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وكذلك في السودان في حرب انفصال الجنوب وما واجهه من مشكلات أخرى في الشمال، أو للمشاركة في حفظ الأمن داخل بلد عربي كما حدث في فترات قصيرة في بداية الحرب الأهلية اللبنانية التي سبقت الإشارة إليها. ويلاحظ أن الجامعة عندما دعيت إلى التدخل في الصومال من الحكومة الوهمية القائمة أحالت الموضوع إلى مجلس الأمن، ثم باركت صراحة أو ضمناً التدخل الإثيوبي في الصومال، كما تجاهلت ما يحدث من حين لآخر من تدخل فرنسي في بنية الدولة والسلطة في جزر القمر. والموقف مما يجري في ليبيا الآن يمثل استثناءً إذن، وبدرجة أقل في سوريا التي أدلى بشأنها الأمين العام السابق بتصريحات سببت أزمة جديدة في العلاقة بين الجامعة وسوريا، أما اليمن فقد حدثت بشأنه إشارة عابرة لم تتكرر، فيما لم يعرض التعاقب السريع للأحداث في تونس ومصر الجامعة لأي مأزق. وفي هذا السياق ينبغي أن تُفهم التصريحات الأخيرة للأمين العام الحالي للجامعة بخصوص ما يجري في سوريا، وهي تصريحات اعتبرها كثيرون صادمة لكل من يحلم بالتغيير في الوطن العربي. بدأت القصة بزيارة الأمين العام لسوريا في 13 يوليو الجاري ومحادثاته مع وزير الخارجية السوري ولقائه الرئيس بشار الأسد. وقد أشار الأمين العام إلى أنه تحدث طويلاً وبصراحة مع الأسد حول أمور كثيرة مستجدة في المنطقة، وحول رياح التغيير التي هبت على بعض الدول، وما يحدث الآن من إصلاحات. وفي تصريحات للصحفيين بعد الاجتماع شدد الأمين العام على رفض الجامعة أي تدخل أجنبي في المنطقة مؤكداً أنه لن يتم الضغط على الجامعة لإصدار قرارات ضد سوريا، وقال إنه "سعيد" بتأكيد الأسد له أن سوريا دخلت مرحلة جديدة، وأنها بدأت مسار الإصلاح الحقيقي. صُدم البعض وربما كثيرون من هذه التصريحات مع العلم بأنها تتفق -كما سبقت الإشارة- مع الاعتبارات القانونية والسياسية الحاكمة لعمل الجامعة، وإذا كانت هذه التصريحات تعمق الأزمة بين الجامعة والشعوب العربية فإن عكسها يفضي إلى أزمة خطيرة في العلاقة مع عدد من الحكومات العربية، ومن هنا المأزق. وليس الخروج منه سهلاً. ومع ذلك فليس معنى ما سبق أنه ليس في الإمكان أحسن مما كان، وأحسب أن الأمين العام كان يمكن أن يخفف من حدة مأزق الجامعة بتجنب زيارة سوريا أصلاً، فطالما أن القيود القائمة لا تمكن من موقف أفضل فإن عدم المبادرة قد يكون هو الخيار المناسب، وكان بمقدوره أن يقصر موقف الجامعة على سلسلة من التصريحات تختفي منها كلمة "سعيد"، لأنه لا شيء يبعث على السعادة في سوريا، ويتم فيه التعبير عن الأسى لسقوط الضحايا الأبرياء، وتأكيد أن الجامعة ستفعل ما في وسعها لتفادي استمرار حدوث ذلك. كما يشار إلى أهمية تنفيذ خطط الإصلاح التي أعلن عنها الرئيس السوري وليس إلى تأكيده على دخول سوريا مرحلة الإصلاح. وقد يكون كل ما سبق من قبيل عمليات "التجميل" الظاهرية إلا أنه يبقى أخف وطأة من مواجهة الشعوب العربية بحقيقة القيود التي تحكم عمل جامعتها. ليس من المنتظر في المستقبل القريب أن يتغير حال الجامعة بسبب حركات التغيير، بل إن نجاح عدد أكبر من هذه الحركات في تغيير نظم الحكم في بلدانها وفشلها في ذلك في بلدان أخرى، سيؤدي إلى استقطاب حقيقي داخل الجامعة على نحو يذكر بالاستقطاب الذي حدث بسبب الخلاف المصري- السعودي حول الموقف من الثورة اليمنية منذ عام 1962، ولذلك فقد يكون الوقت قد حان للتفكير في جامعة للشعوب العربية لا تكون بديلاً للجامعة الحكومية القائمة، ولكنها تعمل بالتوازي معها لتحقيق الأهداف نفسها. سيقولون إن هذا قد يكون معول هدم للجامعة القائمة، غير أن المنظمتين ستكونان متمايزتين، وقد يتضافر عملهما لتحقيق غايات مشتركة. وليس إنشاء جامعة للشعوب العربية بالأمر السهل، فهو يحتاج مبادرة من قوة سياسية مؤثرة في الوطن العربي تنضم إليها لاحقاً القوى المشابهة لها، ولن تكون العضوية فيها للدول وإنما لقوى سياسية قد يمتد بعضها عبر حدود الأقطار العربية، كما أن ثمة عقبات مالية تتعلق بمعضلة التمويل المناسب لنشاطها، وخاصة أنه من المتوقع ألا تحصل على أي تمويل عربي سخي، كما أن حصولها على تمويل أجنبي لا يتناسب والأهداف التي قامت لتحقيقها. ثم إن الاعتبارات السياسية ستؤدي بالنظم العربية القائمة إلى وضع العراقيل أمام عمل هذه الجامعة الشعبية. وخلاصة القول إن ما تواجهه الجامعة العربية من مأزق سياسي في الوقت الراهن يعود إلى طبيعة نظامها وليس إلى سوء في أداء المسؤولين عنها، وهي حقيقة صادمة يجب أن يعيها كل مواطن عربي من أجل ترشيد النظرة إلى الجامعة العربية من ناحية، والعمل من ناحية أخرى على مواجهة الفجوة التي لا تستطيع ملأها في الوقت الراهن بآليات من شأنها مواجهة التحديات التي تعجز الجامعة العربية بحكم تكوينها عن التعامل معها، ومنها تحدي الطموح الراهن إلى التغيير في الوطن العربي.