لم يتمكن معظم العرب والمسلمين بعد من تكوين دول مؤسساتية بالمعنى العملي الصحيح للكلمة، ولم يصلوا بعد إلى بناء وتقعيد نماذج حديثة لدول مدنية محكومة بقوانين ونظم وضوابط عصرية علمية وإنسانية بعيدة عن سيطرة عقول ماضوية جامدة لا علاقة لها بالحداثة والتطور والمدنية. وعلى رغم انفتاح العرب والمسلمين عموماً على مجمل منجزات الحداثة العصرية، إلا أن معظمهم نسوا أو تناسوا شرطاً أساسيّاً وعنصراً جوهريّاً لا تقوم الحداثة إلا به، وهو شرط بناء قاعدتها الفكرية النظرية المتينة والمتماسكة داخل البنية الثقافية للفرد والمجتمع.. ولهذا فقد جاءت حداثتنا العربية أحياناً متلبسة بلبوس قيم التصحر الفكري، واقتصر تأثرنا بالحداثة على الشكل والمظهر دون المضمون والجوهر والعمق الحقيقي. وبعد تطبيق كثير من مظاهر الحداثة في عديد من بلادنا العربية، لا تزال الحالة العامة المسيطرة على الواقع في مجمله هي حالة الترقب والقلق السلبي والتوتر وعدم الرضى بواقع الحال والرغبة في التغيير والإصلاح. وبما أن طبيعة الحلول المقدمة في هذا السياق لا تندرج ضمن الحلول الواقعية المتناسبة مع ثقافة وفكر وطبيعة النسيج التاريخي لمجتمعاتنا فإن ذلك يؤدي باستمرار للبقاء في قلب المشكلة، ومعالجة قشورها من دون النفاذ إلى عمق الأزمة بهدف تحقيق وإنجاز التغيير الحقيقي المطلوب والمنشود. ومن المعروف أن الفكر والمعرفة المختزنة في داخل كل فرد هي القاعدة والمحرك الأساسي لتصرفاته ومشاركته في صنع أحداث ووقائع حياته اليومية. أي أن رؤية هذا الفرد وفلسفته في تسيير الوجود الخاص والعام هي المنطلق الجوهري لأي طموح أو رغبة لديه في بناء عالمه وتحقيق كماله الممكن. ويمكننا أن نطلق على تلك الرؤية أو المعرفة بكل بساطة "فلسفة الإنسان" وهي متكونة من خلاصة تجاربه وتراكم خبراته، وتجسد رؤيته المنطلقة من ذاتيته المعرفية المختلطة بما يحيط به من أحداث وتحولات. وإذا كانت الغاية المقصودة في كل حراكنا المعرفي والعملي هي في دفع الإنسان العربي للحضور في عصره، أي المشاركة الفاعلة في بناء واقعه وحاضره وتأمين مستقبل أجياله الطالعة واللاحقة، فإن المدخل الطبيعي إلى ذلك لا بد أن يمر عبر دراسة القوى المحركة لهذا الفرد بين واقعه النظري المفاهيمي وواقعه العملي الخارجي المتغير والمتحول باستمرار. وليس هناك من وسيلة لتحقيق ذلك إلا من خلال ممارسة النقد والحوار الفكري. فبهذا يمكن أن يستعيد المسلمون هوية سابقة كانت في لحظة تشكُّلها الأولى فكرة إيجابية وقيمة معطاءة ومحفزة للعمل والنشاط الحضاري، أو يجددوا هوية راهنة فقدت بوصلتها ووعيها الذاتي والموضوعي لعلهم يستطيعون التعرف من خلالها على آليات الحداثة، وأولويات الاندماج في العصر. أي أن يكون لهم دور وأثر محقق من خلال إثبات فاعلية الحضور في المتن وليس في الهامش المتجسد من خلال اجترار تقليد الآخر، في استجلاب ونقل حداثته إلى داخل حدودنا الجغرافية من دون وعي معاييرها وبناها التحتية. ومن هنا يمكن التأكيد على أن تقدم مجتمعاتنا العربية الإسلامية مرهون أساساً بتطور وتقدم الفكر المؤسس لإنساننا العربي على طريق تقبله وقناعته الكاملة بضرورة العيش زماناً ومكاناً (عقلاً ووعياً) في عصره الراهن، وعمله على التخلص من معيقات تطوره، لا أن يكون حاضر الجسد مغيَّب العقل، ومهمش الحضور. نبيل علي صالح كاتب سوري ينشر بترتيب مع مشروع "منبر الحرية"