العالم كله مشغول بما يحدث في سوريا وفي ثورتها والقمع الذي يتعرض له شعبها. الولايات المتحدة تراقب عن كثب كلينتون تصدر كل يوم تصريحاً ينبي بالقلق الأميركي والمتابعة اللصيقة وتطور الموقف. والاتحاد الأوروبي يلاحق ما يحدث على الأرض ويخرج كل يوم بمشروع أو فكرة أو تصريح. التحركات في مجلس الأمن لا تهدأ للوصول إلى قرار يدين قمع النظام للشعب، ويحاول أن يوقف البطش المتواصل في حق الناس العزل. تركيا أصبحت وكأنها طرف في الثورة السورية: تفتح حدودها للاجئين الهاربين، وتفتح عاصمتها ومدنها لمؤتمرات المعارضة والثورة، وتقف حكومتها بكل يقظة على آخر التطورات. وإسرائيل قبل هؤلاء جميعاً ترسم السيناريوهات البديلة وتتحسب لكل نهاية وتعمل مع الولايات المتحدة من دون كلل لتضمن مصالحها وتحاول دفع رياح التغيير باتجاه أشرعتها. كل هذه الأطراف تندفع من منطلق المحافظة على مصالحها بكل تأكيد، سواء أكانت تأييداً للثورة أم تأييداً للنظام أم مجرد الحياد وانتظار النتيجة. ولكن أكثر هذه الأطراف، وفي سياق إعادة ترسيم شكل مصالحها تلك، تزعم أنها تبني سياستها بناء على انحياز للشعب السوري وثورته ومطالبه المشروعة. وفي كل حالة من حالات المواقف المختلفة يمكننا اختبار مدى جدية هذا الزعم أو الخداع الذي يحتوي عليه. ولكن المهم في كل ذلك أن إرادة الشعب السوري الصلبة وثورته المتواصلة التي تدخل شهرها الخامس أجبرت كل الأطراف حتى أكثر المتحالفين مع النظام القائم على تغيير موقفهم. وأحد الدروس البليغة التي أفرزتها الثورات العربية، وتؤكدها الثورة السورية الآن، هو أن إجبار المواقف الغربية على تفكيك تحالفاتها التقليدية والإمبريالية مع بعض الأنظمة يمكن أن يتحقق والطريق إلى تحقيقه هو الإرادة الشعبية. أما الطرف الوحيد الذي يبدو وكأنه يعيش على كوكب سياسي آخر إزاء ما يحدث في سوريا فهو النظام العربي و بعض الحكومات العربية العتيدة، حيث تتمسك بالجمود في مواجهة حرارة ودموية وتاريخية وخطورة ما يحدث في سوريا. كأن ما يحدث في سوريا، وضد شعبها، ليس في قلب المنطقة العربية وعلى حدود أكثر من دولة عربية، كما أن نتائجه ستؤثر في كل الوضع العربي. وبذلك يُترك الشعب السوري في مواجهة آلة النظام وحده وينتشر صمت مطبق في عواصم العرب. والتحرك الوحيد الذي أظهره النظام العربي تمثل في الزيارة التي أداها نبيل العربي، أمين الجامعة العربية الجديد، لدمشق وللأسد ليُنقل عنه تصريحات تفيد بأنه ليس من حق أحد نزع شرعية النظام الحاكم هناك. نبيل العربي الذي جاءت به ثورة شعبية نزعت شرعية نظام مبارك، وساندها العالم كله خضوعاً لإرادة المصريين القوية، لم تصدر عنه كلمة تأييد أو حتى تضامن مع الشعب الذي يطحن يوميّاً في المدن والحواضر السورية. ولكن العربي، وللإنصاف، لا ينطق عن نفسه بل عن نظام عربي عام. ولكن هذا المنطق على ما فيه من واقعية بشعة لا يلغي الحقيقة المرة وهي أن الشعب السوري وثورته يُتركان لكل الأطراف الأخرى ولتدخلاتها ولتأثيراتها ولرسم طبيعة التحالفات المستقبلية. ولذا تُسجل هذه الأطراف نقاطاً لحسابها من خلال تأييدها المصلحي للثورة الشعبية لأن الساحة خالية والغياب العربي مذهل. ولأن الثورة، أية ثورة، تحتاج إلى كل أنواع الدعم، خاصة السياسي والدبلوماسي، فإن التسرع باتهامها واتهام قيادتها بهذه التهمة أو تلك فيه نزق سياسي. ماذا تفعل الثورة السورية والشعب السوري إزاء تخلي العرب والأنظمة العربية عنهم؟ هل يعتذرون للنظام عن انتفاضاتهم ويقولون له أخطأنا وسنعود إلى بيوتنا حتى تعود كما كانت الحال طوال العقود الأربعة الماضية وأكثر؟ نعرف جميعاً أن سيرورات الأحداث الكبرى تنفر من الفراغ السياسي والقيادي، وأي فراغ حادث يتم ملؤه بسرعة بآلية تشبه فيزياء الأواني المستطرقة. وعندما يغيب العرب في إقليمهم هم، وفي منطقتهم هم، وفي سوريا الخاصة بهم، فإن ذلك الغياب ليس إلا دعوة مفتوحة لكل القوى الخارجية كي تتدخل وتؤثر في مسار الأحداث. والشيء الغريب هو أن عقيرة العرب، وبعض الرسميين على وجه الخصوص، سرعان ما ترتفع عندما تتدخل الأطراف الأخرى لأن مستوى القمع وإسالة الدماء تجاوزت قدرة الجميع عن التعامي عنها. لا يقدم العرب أي حل، ولا يحتضنون الثورة السورية حتى تبقى في الفضاء العربي مصلحيّاً واستراتيجيّاً ومستقبليّاً، ولا يفتحون عواصمهم حتى لاستضافة مؤتمرات المعارضة السورية، طاردينها إلى خارج المنطقة العربية، ثم يتصايحون بعد ذلك كله ضد "التدخل الخارجي". وهذا يشير إلى بروز مسار جديد يشق طريقه مع الثورات العربية على العموم، فارضاً نفسه على مرأى منا جميعاً ومعه مقادير كبيرة من الغموض والحيرة، ألا وهو موقف وعلاقة الغرب من، ومع، هذه الثورات. فهناك من ناحية التقصير العربي المريع في احتضان هذه الثورات، وهو طبعاً احتضان لا يمكن أن يتم، وهناك من ناحية أخرى حاجة هذه الثورات للدعم والمساندة. وخلاصة ذلك تتمثل في محاصرة هذه الثورات بالمعادلة المستحيلة: عليها أن تواصل الثورة والتعبير عن إرادة الشعب، ولكن من دون غطاء أو دعم عربي، وعليها أيضاً أن ترفض أي دعم خارجي، بل وعليها أن ترفض كذلك مجرد التأييد اللفظي الخارجي وخصوصاً الغربي. فإن حدث وأن صدر تصريح غربي هنا أو هناك ليقف مع حقوق الشعب السوري فإن الثورة السورية تصبح متهمة بأنها عميلة للغرب. ولا أحد يقلل من عمق التجربة التاريخية المريرة مع الغرب في المنطقة، التي جوهرها الشك (المنطقي في أغلب الأحوال) في أي موقف غربي إزاء أية قضية في المنطقة. ولكن علينا الانفكاك من تعميم تسيس ساذج وطفولي في الوقت نفسه. فطوال عقود طويلة كان انتقادنا الأكبر للسياسة الغربية يقوم على أنها تتحالف مع بعض الأنظمة ضد الشعوب لتحقيق مصالحها. وكانت المطالبة الدائمة بوجوب احترام الغرب مصالح الشعوب العربية والتعامل معها وليس مع بعض الأنظمة لتحقيق المصالح المشتركة كما هو منطق السياسة. أما الآن فنحن أمام مرحلة جديدة، هي أن الشعوب تفرض على السياسة الغربية أن تفكك تحالفها القديم والتقليدي مع بعض الأنظمة وأن تتعامل مع الإرادة الشعبية. وعندما يبدأ هذا في الحدوث نتوتر ونقول إننا لا نريد أن يؤيد الغرب الثورات العربية، نريده أن يؤيد بعض الأنظمة -وهذا يحتاج إلى مقاربة منفصلة. ولكن كل الدمار الذي قد يصيب أي تحول إيجابي في المنطقة مرده إلى التكلس العربي والجمود وعدم الفعل الجماعي.