ربما كان كتاب نجيب العقيقي (1916 - 1981) وعنوانه "المستشرقون" أفضل المراجع العربية الرصينة في هذا المجال. وهو يقع في ثلاثة مجلدات، ومن مطبوعات دار المعارف بمصر. يقول عنه الأديب المصري "وديع فلسطين": "اشتهر نجيب العقيقي بكتابه "المستشرقون"، ولو لم يكن له مؤلفات أخرى لكان حسب هذا الكتاب فخراً ومجداً. وقد جاءت طبعته في ثلاثة مجلدات ضخمة استطاع إنجازها بالاتصال الشخصي بدوائر الاستشراق في جميع دول العالم. وقد أطلعني على عشرات من الرسائل التي تلقاها من المشتغلين بالاستشراق. ولا أخالني مبالغاً إذا قلت: إن كتاب العقيقي هو أوفى كتاب ظهر حتى الآن في التأريخ لحركة الاستشراق واعلامها. وقد ظهر في حياته الجزءان الأول والثاني من هذا الكتاب، وظهر الجزء الثالث بعد وفاته". ولد العقيقي في كفر ذيبان من أسرة مارونية بجبل لبنان، وتعلم في مدارس القرية، ثم عمل في الصحافة عندما أجاد العربية والفرنسية إجادة تامة، وما لبث أن هاجر كالكثير من "الشوام" اللبنانيين والسوريين إلى مصر. وكان معظم الشوام يسكنون "حي الفجالة" لقربه من محطة القطار وتعدد الفنادق فيه، حيث يباشرون بعد ذلك تجارتهم أو نشاطهم الثقافي والصحفي. وفي هذا الحي، يضيف الأستاذ وديع فلسطين، "ولدت دار المعارف، ومنه صدرت القواميس العصرية لإلياس أنطون إلياس، وفيه أنشأ سلامة موسى "المجلة الجديدة"، وكان أول عمل التحق به نجيب العقيقي في مصر هو التدريس في مدرسة "الجزويت"، وهي أيضاً في حي الفجالة، حتى إذا ما أُنشئت جامعة الدول العربية وصارت لكل دولة من أعضائها حصة من الموظفين، تقدم العقيقي للعمل فيها على حصة لبنان، وأُلحق بالإدارة الثقافية التي تدرج في سلمها الوظيفي حتى وصل الى مرتبة مستشار". (وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره، جـ 2، ص 274) بالرغم من اتساع حجم الجهد المطلوب في تكملة هذه الموسوعة، كان "العقيقي"، وهنا الغرابة، يرى أن الجهد الفردي في العمل الموسوعي أجدى وأسرع إنجازاً من الجهد الجمعي، "لأن الفرد متى عقد النية على إعداد مرجع ضخم، حدد أهدافه بنفسه تحديداً قاطعاً، وجمع مادته في ضوء هذه الأهداف، ثم عكف على عمله وفقاً للخطة التي تتراءى له، وبذلك يحقق لعمله التناسق والتوازن المنشودين". وربما صح هذا مع الموسوعات التعريفية المتعلقة بموضوع واحد أو علم محدد، كالموسوعات الكثيرة التي نراها اليوم في المكتبات، والعديد منها قيم بلا شك، في مجال العولمة أو علم الاجتماع أو حقوق الإنسان أو الفن المعاصر أو أشهر المخترعين وغير ذلك. أما الموسوعات الكبيرة والشاملة، والتي تقع في مجلدات كثيرة وتتناول كل المواضيع فلا يمكن ولا يستحسن أن يتولى تأليفها شخص واحد، وذلك بسبب تشعب العلوم ودرجة الدقة المطلوبة في كل مادة وتعدد اللغات التي ظهرت بها بعض المرجع. ويحق لنا مع هذا أن نثني على تواضع العقيقي، فرغم دقة كتابه الفائقة وشمولها في هذا الباب، رفض أن يسميها "موسوعة" كما هو شأن الكثير من مصنفي الكتب اليوم. فبجانب بعض الموسوعات الأدبية والعلمية القيمة، والتي تستحق عناوينها، نجد مجموعة أخرى من المعلومات المجمعة والمعارف الملخصة على عجل، تحمل عناوين موسوعية فخمة لا تعبر عن حقيقتها. كما أن "العقيقي" أعد كتابه في الواقع خلال فترة زمنية ممتدة. إذ ظهرت طبعته الأولى في بيروت عام 1937، ثم الثانية عام 1948، والثالثة بدار المعارف بمصر في 1404 صفحة بين عامي 1964 - 1965، ثم صدرت الطبعة الموسعة عام 1980 - 1981. يخصص العقيقي الفصول الخمسة الأولى من الجزء الأول للحديث عن حضارات الشرق والعرب قبل الإسلام والنهضة الأوروبية وغير ذلك. وهو، كمعظم المسيحيين العرب، شديد التعاطف مع الإسلام والمسلمين، كثير الانتقاد للحملات الصليبية والإشادة بحضارة الأندلس وتسامح المسلمين فيها. وفي زمن السلطان العثماني الكبير سليمان القانوني (1520 - 1666). يقول العقيقي "اعتقل بعض الجواسيس العثمانيين في روما، فبلغ الهلع بين سكانها مبلغاً ذكرّهم بهانيبعل.. ولكن نهب روما لم يأت على يد العثمانيين، بل بإيعاز من ملك إسبانيا، فغزاها زعيم "تيرولي" بجيش من المرتزقة الألمان والجنود الإسبان عام 1527. بدأ الاستشراق أكثر ما يكون تنظيماً وانتشاراً واستمراراً بالفاتيكان، يقول العقيقي: كان رجال الدين يومئذ يؤلفون الطبقة المتعلمة في أوروبا ومرجعهم الفاتيكان. وكانت اللغة والثقافة العربية من الانتشار بحيث لم يكن لرجال الدين والباحثين هؤلاء من سبيل إلا تعلم العربية واللغات الشرقية واليونانية، حيث اضطهده معاصروه المسلمون، وأضاعوا أصول معظم كتبه العربية فيما سلمت أصولها العبرية! يبلغ عدد المستشرقين في كتاب العقيقي قرابة 1900 شخصية من مختلف الأمم الأوروبية والولايات المتحدة، من بين هؤلاء نحو 350 فرنسياً و308 انجليزي، و250 ألمانياً و 152 إسبانياً و 111 روسياً و 102 هولندي، و 93 أميركياً. وينتمي الباقون إلى كل الدول الأوروبية الباقية كإيطاليا، نحو 90 مستشرقاً وبولندا نحو 50، والدنمارك 30، والسويد 39.. الخ. ولا يتناول كتاب "العقيق" أسماء المستشرقين وأعمالهم فحسب، بل يمهد لكل دولة بالحديث عن مكتبات ومطابع ذلك البلد وجامعتها وغير ذلك. فيبدأ الحديث عن المستشرقين الفرنسيين بالإشارة إلى "كراسي اللغات الشرقية" من القرن الثاني عشر حتى عام 1957، عندما "أدخلت فرنسا على برامجها في التعليم الثانوي مواد جديدة عن الحضارات الكبرى وتطور الشرق التاريخي، فأصاب العرب والإسلام منها حظ موفور". ثم يتناول "المكتبات الشرقية" في فرنسا، ومنها مكتبة باريس الوطنية المؤسسة عام 1654 Bibliotheque Nationale، وتحتوي على ستة ملايين من الكتب والمخطوطات، منها نحو سبعة آلاف مخطوط عربي "بينها نفائس علمية وأدبية وتاريخية ونوادر قلما توجد في غيرها". ويشير إلى "المطابع الشرقية" في فرنسا، حيث بدأت الطباعة بالعبرية في باريس عام 1519 والعربية. أما "المجلات الشرقية" الخاصة بمقالات وبحوث الاستشراق، فمنها "صحيفة العلماء" التي بدأت بالصدور عام 1665 عن جمعية العلماء الفرنسيين كل ثلاثة أشهر، وكانت تخص العرب والإسلام بدراسات رصينة. و"المجلة الآسيوية" التي صدرت عام 1822، وتعد من أوسع مصادر الاستشراق في الغرب وأوثقها. و"المجلة الأفريقية" و"مجلة تاريخ الأديان" و"المجلة التونسية" ومجلة الدراسات الإسلامية التي بدأت بالصدور عام 1927 بإشراف المستشرق الشهير "لويس ماسينيون". ولا يعرف الكثير منا سوى أسماء بعض مشاهير المستشرقين، وهؤلاء نسبتهم قليلة جداً، إذ لا يزيد عددهم على الثلاثين ممن ترد أسماؤهم في موارد نقد الاستشراق وذمه. وهناك المئات من الباحثين والأساتذة الكبار الذين لا ترد أسماؤهم في كتب ومقالات الذم العربية والإسلامية، ممن كتبوا أفضل الكتب والبحوث، وسلطوا الأضواء على جوانب مهملة مجهولة من التاريخ والثقافة الإسلامية. ومن المؤسف أن الجامعات العربية والإسلامية اليوم، وعددها بالمئات، لم تنجب سوى أعداد قليلة جداً من الأكاديميين والبحاث الذين أثروا الثقافة الإسلامية ومجالات البحث العلمي والعطاء الفكري بما يشبه عطاء المستشرقين.